نزوح صوب مرافىء الجوع والتيه …
سعدي عباس العبد*
حومت الريح بين الخيام , فتصاعدت ذيول الغبار ترشق وجوهنا الصفر المطبوعة بعلامات الانيميا .. رفعت طرف ثوبي ومسحت ذرات الغبار العالقة في رموشي , وجريت وراء أبي الذي توارى وسط الغبار .. ومن وراء خيمة الارملة جارتنا , سمعت صوته يهتف بأسمي , فجريت ناحيته . وجدته يفك حبال الخيمة ويعيد ربطها والريح المغبرة ماتزال تشتد في في هبوبها وغبارها وانا واقف فوق رأس أبي .. اقتفى اثري بقية الاولاد . تحلقنا كسياج رخو حول جارتنا الارملة . وعبر ايمأءة من يدها دلفنا إلى الخيمة . وما انّ تماسكت اطراف الخيمة , حتى هطل المطر .. لمحت امّي وجارتنا الشمال يمّشينَ فوق الارض
البليلة ومروان الولد المريض يمسك باذيال أمّه .. وفي اللحظة التي اشتد فيها هطول المطر , اللحظة التي كاد يغادر فيها أبي الخيمة , اطلقت الارملة نحيبا لاذعا ينساب فاترا وهو يتصاعد في الفضاء البارد , فتنحى ابي جانبا , دخلت امّي ووقفت جنب ابي , وهي تشخص بصرها ناحيتي , فلمحت فصوص لامعة من الدموع تشعّ في عينيها ما لبثت انّ تحوّلت إلى بكاء فاتر اوّل الامر ثم تصاعد متناغما مع نحيب جارتنا الارملة . ذلك النحيب الحزين الذي راح يشدّنا لايام ماقبل النزوح .. ايام لا ندري كيف ولماذا ! ؟ تسربت من اصابع الوجود , وجودنا , حفر البكاء رماد تلك الايام المطمورة تحت جذوة الألم ,
الايام التي لما تزل تعصف بالذاكرة والروح .. كانت ايام ما قبل النزوح بايام , شديدة الرعب والظلام . . كان الظلام يسيل قاتما دامسا مع تصاعد صوت البنادق والقذائف , فنبدّد سواده بايقاد الفوانيس , فيندلق نورها الشحيح وسط ظلام شامل يخيّم على فضاء البلدة والازقة والغرف .. كان فانوسنا معلّق في مسمار مغروس وسط جدار غرفتنا المحاذية لزّقاق , كنت اتملى نوره الفاتر وهو ينسفح على الحيطان , حيطان غرفتنا , وعلى السجادة وعلى وجه ابي وعلى ملامح امّي المركونة عند طرف قصي من الغرفة وعلى جارتنا الارملة التي وفدت إلى غرفتنا توا فاغلقت ببدّنها العريض ! المترّهل منافذ
الهواء المتسرّب عبر الباب المفتوح .. اطلّت برأسها الملفوف بخرقة سوداء ,كانت لا تقوى على المشي , تدبّ مثل حشرة عملاقة ! وقبل انّ تستريح . اجهشت بالبكاء فاضاء نور الفانوس عيونها الملتمعة بالدموع . دموعها التي كانت تزداد جريانا ولمعنا مع تصاعد اصوات القذائف المتدفقة من اطراف البلدة . . ولما رفع ابي رأسه احتلت جانبا من وجهه بقعة مضيئة من نور الفانوس تسربت من وراء رأس امّي فغمرته باصفرار ظلّ يسيل على سحنته ..عندما امسكت جارتنا عن التدفق بالبكاء , اسندت ظهرها إلى الحائط وشرعت تروي عما يحدث في بيوت الزقاق , والازقة المجاورة . اخبرتنا : الجميع عازمون على ترك
البلدة والنزوح صوب الضواحي البعيدة او صوب البراري , حتى شيخ الجامع .. سوف لن يبقى احد .. اوراق التهديد بالقتل والإبادة ملأت البيوت ..وجعلوا يلصقونها على الجدران . تراجع ابي بظهره متأففا إلى الحائط , فغاب النور او البقعة المضيئة عن وجهه وتلاشى بياض لحيته في الظلال التي سفحتها امّي خلال حراك بدنها الذي صار بمواجهة ابي , جرّتني من يدي برفق وهي ترى إلى أبي بكامل خوفها ودموعها , ولفت ذراعها على رأسي , فسمعت خفقان قلبها وهي تلتحم بوجيب قلبي , فيزداد خوفي , فاغمضت عينيّ لبرهة او بعض برهة , فرأيت فيما يرى المرعوب ! اشباحا طويلة بلثامات سود تغطي وجوهها ولها
سيقان رفيعة وطويلة تخرج من حلوقها كرات من نار , كرات تحلّق فوق البيوت , بيوتنا , وفوق مئذنة الجامع رأيت اسراب من الغربان . غربان من نار , .. غربان تنهش بمناقير من حديد جثث , اكوام من الجثث , جثث ملقاة في ارض الزقاق .. جثثنا ..فاطلقت صرخة مفزعة اهتز لوقعها الجالسون . فرأيت امّي تجري في الحال وتعود بآناء اوقدت فيه النار وجعلت تنثر نثار من البخور , فتتصاعد رائحة نفّاذة تنضح من دخان غمر نور الفانوس بهالة من ضباب رمادي كانت تفعل ذلك وهي تطلق كلاما غامضا اقرب ما يكون الى كلام السحرة . وتمسح على رأسي ووجهي وانا مستغرق في الخوف وملاحقة خيوط الدخان التي تكاثفت عند
محيط الفانوس , الفانوس الذي اهتز بغتة , فارتعش نوره الغائم الشحيح , فارتعشت معه قلوبنا , وهتزت معه رؤوسنا والنافذة والجدران والارملة .. فاطلق كلبنا في الخارج نباحا متقطعا , وصفقت الريح باب الغرفة وهويّت ثياب كانت منشورة على مسامير في الجدار , وتدفق عبر النافذة صفير الريح وتلاشت رائحة البخور في الهواء وتبدّد الدخان في هواء الغرفة الراكد , ورأيت ظل ابي يرتعش في الحائط وهو ينصت واقفا جنب النافذة لاصوات جعلت تتصاعد في الخارج . اصوات تأتي بها الريح , .. فيما كانت امّي تشرئب برأسها المغطى بملأة سوداء متهدّلت الاطراف , ترى من وراء كتف ابي الى الخارج . الخارج
الذي خلا من اللغط الغامض …لم يبق سوى الوشيش ..ولما ارتجّت البيوت ثانية لمحت امّي التي أفلتُ من يدها تجري ناحية الغرفة الواقعة عند اقصى الحوش , تقتفي اثرها الارملة . اغلق ابي النافذة وجعل يتطلع عبر ثقب مفتاح الباب . سمعت امّي تنادي عبر الظلام على ابي , تطلب اليه انّ يحكم غلق الباب ويعود .. جريت وراء ابي الذي دخل الغرفة متأففا محوقلا وهو يرفع طرف ردائه فبان سرواله الذي كشفه نور الفانوس الذي جائت به امّي معها إلى الغرفة . جذبتني امّي ثانية وضمّتني الى صدرها تتشمّم رأسي الذي لم يزل عابقا برائحة البخور وهي تطلق نشيجا جنائزيا اقرب ما يكون الى المراثي !
بينما شرعت الارملة تذكّي جذوة بكاؤها بمزيد من جمرات اللوعة , ولما تصاعد بكاؤها في وشيش الريح والظلام , راح ابي يطلق سعالا فاترا وهو يتوغل في ظلام الحوش ليتوضأ هناك ولما عاد كان ماء الوضوء لم يزل يتخلل شعر لحيته النافر وقبل انّ يستقبل الجبهة او القبلة , ارتجت الجدران . ولكنه لم يهتز بقي متماسكا باتجاه القبلة وعندما برك , اهتزت الجدران بعنف , ارتجت اركان الحوش برمّتهِ , فتدحرجت احجار كانت كانت مركونة فوق حواف سطح الغرف تلاها صوت ارتطام بعيد . شاهدت الارملة تنكفىء على ظهرها فجأة , فتند عنها صرخة مذعورة ثم رأيت امّي تهوي فوقها فتفر منها آنة او آنات
متعاقبة تلاشت في حفيف القصف .. لم يبدي ابي حراكا مكّث مسمّرا باتجاه القبلة , حتى عندما مزق اوصال السكون والظلام والاعماق صوت قذيفة اشد هولا ووقعا ورعبا من سابقاتها واطاحت بالصوّر المزجّجة من على الجدران وباعشاش عناكب معرّشة في الزوايا المغبرة وبغبار كان راكدا لوقت طويل فانهال يهمي كثيفا وتصاعد صوت نقر عنيف على الباب الخارجي يعقبه صياح ممدود يخالطه نباح يأتي من بعيد . فجرت امّي في الحال فركضت اثرها , ولما انفرج الباب لمحت عائلة جارنا الحاج .. يدخلون مذعورين ..سمعت الحاج وهو يدخل الغرفة يقول بنبرة مضطربة _ : ياربي كم كانت قريبة كادت تقتلنا لو لا رحمة
الله التي ادركتنا ودفعتها لتنفلق هناك وراء السياج الخارجي وتذهب شظاياها في الريح .. اتمّ ابي صلاته واستدار صوب الحاج يلقي تحية المساء وقبل انّ يردّد دعاء المساء . تصاعدت اصوات البنادق في الخارج , كانت تأتي من بعيد في اوّل الامر يعقبها اصوات نباح ثم ما لبثت تصاعدت على مقربة من الجوار . كان ازيز الرصاص يتدفق صادما عبر الجدران والنوافذ وفضاء الزقاق المقفر ..
لم ينم احد في ذلك المساء , بقينا مستيقظين خائفين حتى مطلع الفجر . عقب ذلك الفجر بنهار وجدنا انفسنا في هذا المخيّم .. لا ندري ماذا ننتظر !! ؟ .. فقد مرّ وقت طويل على نزوحنا شبعنا خلاله جوعا وضيّاعا وبكاءا .. نبتدأ منذ الصباح بالاغتسال بالماء الشحيج ومن ثم الدعاء ومراجعة موظفيّ الحكومة في اطراف الضاحية . نطلب اليهم ان يمدونا بالمؤنة والدواء لمعالجة الاوبئة التي شرعت تتفشى بالمخيّم .. وكانوا دائما يردّدون ذات العبارة : تعالوا غدا ويأتي الغد ولم يحدث سوى ان يردّدوا : تعالوا غدا . حتى بات هذا الغد بعيدا . وبمرور وكرّ [ الغدّات ] .. !! كنا نتلاشى ونختفي في مجرى من
المرض والجوع العميق .. نتلاشى في مواكب مريعة من الغياب والامحاء ..
كاتب عراقي من بغداد