#مُقتدى الصدر: الانتحار السياسي ولا التبعيّة
لم يكن إعلان زعيم التيار الصدري في العراق، مُقتدى الصدر، انسحابه من الحياة السياسية ، خطوة مفاجئة، فالأشخاص الذين يحملون ذهنية استقلالية غير تبعية مثل هذا الرجل، لا يمكن أن يستمروا في الحياة السياسية بشروطها الحالية، حيث منطق التمذهب السائد ومنطق الانتماء للخارج وخدمة دوائره الاستخباراتية هو من يحكم اللعبة في العراق اليوم.
لا يعني القول أن التيار الصدري أو جيش المهدي، حركة وطنية غير طائفية، بل على العكس، هو مقيّد بحدوده المذهبية الضيّقة، بحكم صورته وصبغته الشيعية، لذلك من الصعب عليه الاستمرار في الجمع بين انتمائه العروبي وولائه المذهبي، فإما يكون تابعاً لإيران أو أي دولة خارجية، على غرار العميل المزدوج رئيس الوزراء نوري المالكي الذي يتبع لواشنطن وطهران معاً، وإما سيختار الانتحارأو التفرغ للعمل الانساني والخيري كما كان مصير السيد محمد حسين فضل الله في لبنان ومن بعده نجله السيد علي فضل الله.
فالحل الثالث الذي فات الآوان على الصدرالقيام به هو تأسيس حركة عراقية وطنية غير مذهبية وغير منتمية للخارج.
منذ غزو بلاد الرافدين وسقوط نظام صدّام حسين عام 2003، تفرّد الزعيم الشاب بمواقفه، فلم يرضَ لنفسه بأن يكون ضمن مزاجية شيعية سائدة ترحّب بالاحتلال انتقاماً لخصوم الأمس. رغم أن نظام البعث ظلم أهله وعشيرته، فوالده محمد صادق الصدر الذي قتله النظام السابق في 1999 مع اثنين من أبنائه، وكذلك قريبه المفكر محمد باقر الصدر، الذي قتله صدّام مع شقيقته بنت الهدى عام 1980.
لقد كان جيش المهدي الذي أسسه الصدر في طليعة المقاومين ضد الاحتلال الأميركي والبريطاني للعراق، فخرج عن السرب الشيعي المُلتزم بعملية سياسية يديرها الحاكم الأميركي بول بريمر، واتّخذ الكفاح المُسلح طريقاً لتحرير العراق من الاحتلال، فحظي بمحبة العراقيين الذي رفضوا الرضوخ للاحتلال، وبات زعيماً عابراً للمذاهب محبوباً من العشائر السنية والشيعية على حد سواء.
وبذلك تفرد الزعيم الشاب بمواقف لم تمليها عليه لا ايران ولا السعودية ولا أميركا، حتى بعدما انخرط في العملية السياسية وحصلت كتلته على أربعين نائباً ووزراء، بقي يطالب بإخراج الاحتلال.
لذلك بدأ خصومه حربهم ضده. إذ كيف يمكن أن يكون زعماء التيارات العراقية الأخرى وخصوصاً الشيعية منها، يأخذون قادة الاحتلال بالأحضان، ويرحبون بهم في مقراتهم وبيوتهم، بينما مقتدى الصدر يُشرف على المعارك مع الأميركيين بنفسه، لدرجة أنه أصيب بجروح في يده في قصف أميركي على مقبرة وادي السلام في النجف حيث كان يتواجد.
لعل هذه المواقف لم تعجب الخارج، وخصوصاً إيران التي كانت تلعب بالورقة الشيعية بهدف ايجاد تسويات مع “الشيطان الأكبر”، إذ رفض الصدرأن يعمل بـ “ريموت كونترول” من طهران. لذلك توارى عن الأنظار في أواخر العام 2006 ولم يُعرف مكانه ليتبين أنه كان في إيران، بذريعة متابعة دروسه الدينية. لعلها حجّة خلقتها دوائر القرار في النظام الإيراني لإبعاد الرجل عن الساحة، حتى لا يستمر بازعاجها، وفي محاولة لإقناعه أن حصوله على المرجعية الدينية شرط أساسي لزعامته المُفترضة.
لكن الرجل كان يتصرّف بحسٍ عربي غير مذهبي ووطني غير طائفي مع كل العراقيين، رغم تورط جيشه في مجازر ومواجهات طائفية، وأعمال تخريب طالت محلات لبيع الكحول، ووصلت الى حد التدخّل في لباس البنات في الجامعات تحت عنوان “الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر”، ليتبين أن جيش المهدي أصبح مُخترقاً من قبل أجهزة غربية بهدف تشويه صورة المقاومة الشيعية، على غرار تشويه المقاومات الأخرى بعناوين (كانت ظالمة أحياناً بحق تيارات عراقية شريفة)، مثل التكفيرية والإرهاب.
وما كان من السيد إلاً أن حل جيش المهدي، وبدأ العمل على غربلة عناصره، والعمل على إعادة تشكيله بصورة جديدة، خصوصاً أن هذا الجيش فقد ما لا يقل عن الف من عناصره في القتال ضد الأميركيين، واعتبرته وزارة الدفاع الأميركية في العام 2006 من أكبر التهديدات التي “تعيق استقرار العراق”.
وبعد انسحاب الغزاة نهاية العام 2011، تحول نضال التيار الصدري نحو الحكومة ورئيسها نوري المالكي، فلم يكن الصدر خاضعاً لقطيع مذهبي، بل شارك اخوانه العراقيين الآخرين، هواجسهم من نظام المالكي الذي كرّر ظلم صدام حسين بحق شعبه. ووصفه الصدر بالديكتاتور والكذاب.
من هنا نشط الزعيم الشاب في الدعوة الى معارضة وطنية ضد حكومة المالكي، وذهب مع مجموعة من قيادات التيار الصدري وصلىّ الجمعة وراء إمام من أهل السنة، ليمتص الغضب المذهبي ويحول الحراك الشعبي الى حراك وطني عراقي لا حراك سنّي.
وإن كانت حركته متواضعة نسبة الى ما خلقه الاحتلال من نظام طائفي قسّم العراقيين وزرع الحقد بينهم، بيد أنها كانت مهمة ومفيدة للشعب العراقي ومُزعجة لأجهزة الاستخبارات التي تعلب في الساحة العراقية بدءًا من الرياض مروراً بطهران وأنقرة ودمشق وصولاً الى واشنطن.
لعل هذا التحدي الكبير الذي تحلى به الرجل قاده الى اتّخاذ إحد خيارين، إما الانخراط في سيموفونية التطبيل للخارج، والعمل على ترسيخ سياسة الحقد بين العراقيين وتغطية الفساد والسرقات، أو الانتحار سياسياً. فاختار الأمر الثاني، معلناً “اغلاق جميع المكاتب وملحقاتها على كافة الاصعدة الدينية والاجتماعية والسياسية”. وقد تكون الأزمة السورية وتداعياتها على الشارع العراقي، وارتباطاتها الاقليمية وبعدها المذهبي أحد اسباب اعلان الرجل عن عدم تدخله بالأمور السياسية كافة، إذ يصعب على مقتدى الصدر أ، يكون منخرطاً في حرب اقليمية على غرار حزب الله اللبناني وفيلق بدر العراقي، خصوصاً أن الزعيم الشاب كان قد تفرّد أيضاً في بداية الأزمة السورية بانتقاد سياسة النظام في دمشق ودعا الى تلبية مطالب الشعب السوري.