ثروة العراق الأثرية العظيمة (تحقيق)
لم يبق من قصور مدينة أور ومعابدها من حضارة بلاد الرافدين سوى أطلال لكن زقورتها أو هرمها الضخم مازال يقف منذ الاف السنين شامخا مهيمنا على الاراضي الصحراوية المنبسطة التي أصبحت الان جنوب العراق.
عندما تصعد سلم الزقورة المبني من قوالب الطابوق أو الطوب إلى القمة التي تسفعها الريح تطالعك المقبرة الملكية التي اكتشفها قبل 90 عاما البريطاني ليونارد وولي الذي استخرج كنوزا تضارع ما اكتشف في مقبرة الفرعون توت عنخ آمون في مصر في عشرينات القرن العشرين.
ومنذ هذا الاكتشاف لم تشهد المنطقة نشاطا يذكر. لكن خبراء الاثار البريطانيين عادوا إلى المنطقة رغم الوضع الأمني الصعب في العراق والذي كان سببا في بقائهم بعيدا عن واحدة من أقدم مدن العالم التي لم يعد يزورها سوى أصحاب القلوب الجريئة من السياح.
راحت جين مون وستيوارت كامبل ينفضان التراب الكثيف عن ملابسهما لدى عودتهما إلى أور في نهاية يوم عمل انقضى في الحفر في مستعمرة أصغر في تل خيبر على مسافة 20 كيلومترا من أور.
قالت جين التي عملت أول ما عملت في العراق عقب تخرجها من الجامعة في منتصف السبعينات “لدينا فكرة ما عما وصلنا إليه. هو كبير الحجم جدا. ولا بد أن يكون مبنى عاما وربما معبدا… الخطوة التالية أن نفهم كيف يعمل.”
وتقول جين التي تشترك في إدارة عمليات الحفر مع كامبل وزوجها روبرت كيليك إن الهيكل المكتشف يرجع إلى أوائل الالف الثانية قبل الميلاد. وتشير بقايا فخارية إلى أن الموقع كان مأهولا قبل ألف سنة وربما ألفي سنة من ذلك التاريخ.
كان الاثري البريطاني وولي يدير مئات العمال لكي يخرج مدينة أور التي بنيت وأعيد بناؤها قبل الاف السنين إلى النور معتمدا على خبرته ومعرفته بالهندسة المعمارية وفن صناعة الفخار.
أما الاثريون الذين يعملون في موقع تل خيبر الآن فيستخدمون 16 عاملا عراقيا فقط لكنهم يستخدمون أيضا صور الاقمار الصناعية والتحليل البيئي وعمليات المسح الارضي وكلها أدوات كان وولي ليجد فيها متعة كبيرة لو أنها أتيحت له.
ورغم أن هذه البقعة من العراق يسودها الهدوء النسبي فإن السلطات توفر للفريق البريطاني حراسا مسلحين للانتقال من أور إلى تل خيبر والعودة كل يوم.
وقالت جين “لا بد من حماية لنا أينما ذهبنا. لكن الأمر يستحق ذلك فهذا المكان خيالي.”
“أصول الحضارة”
وبعد أكثر من عشر سنوات على الحرب التي أطاحت بحكم صدام حسين يحتاج الزوار الأجانب تصريحا رسميا خاصا ورفقة مسلحة للمرور عبر نقاط التفتيش التي أقامها الجيش للسيطرة على مداخل أور ومخارجها.
والموقع نقطة جذب محتملة للسياح في قلب بلاد ما بين النهرين حيث بدأت حياة الاستقرار في مراكز عمرانية وبدأت الكتابة وسلطة الدولة المركزية لكن لا يأتي إليه سوى أعداد بسيطة. وتقبع سيارات الجولف الكهربائية التي يفترض أن تنقل الزوار دون حراك في ظل الزقورة.
وخارج حدود الموقع الاثري تقع قاعدة طليل الجوية التي تعرضت للقصف ثم احتلتها القوات الامريكية. وعلى مقربة تقع بلدة الناصرية التي اجتاحتها القوات الغازية في طريقها إلى بغداد عام 2003. ونجت مدينة أور من الحرب دون أضرار تذكر.
وفيما عدا إقليم كردستان في شمال العراق فإن الفريق البريطاني وفريقا ايطاليا يحفر في مدينة بابلية في أبو طبيرة على مسافة 19 كيلومترا من أور هما الفريقان الدوليان الوحيدان اللذان يقومان بأعمال حفر في العراق.
وقالت جين التي كانت تغطي رأسها بغطاء أبيض يقيها حرارة الشمس والغبار “هذا الجزء من جنوب العراق بابل القديمة بل وسومر وأكاد من قبلها هو على الارجح أهم موقع في العالم من زاوية أصول الحضارة.”
واضافت “لم تحدث عمليات حفر مهمة هنا منذ الاربعينات. وبسبب كل مشاكل السنوات القليلة الماضية لم يعمل أحد هنا. ورأينا أن وقت العودة حان.”
وفي أيام مجدها كانت مدينة أور مركزا للتجارة من بلاد بعيدة مثل أفغانستان والهند وتركيا وعمان ومصر. وفي الماضي البعيد انحسر ساحل الخليج جنوبا وغير نهر الفرات مجراه لتصبح المدينة بعيدة عن البحر وتنقطع صلتها بالنهر الذي كان يغذي قنوات الري الممتدة حتى تل خيبر وما وراءه.
“بيروقراطية مفرطة”
كتب الأثري وولي في كتابه (أور الكلدانية Ur of the Chaldees) يقول إنه تطلع شرقا من الزقورة باحثا عن بساتين النخيل على ضفة النهر فلم ير سوى رمال قاحلة لا زرع فيها في كل الاتجاهات.
وربما تخفي الصحراء في باطنها ثروة العراق من النفط لكنها ليست صالحة للزراعة اليوم. وحتى إذا تم توصيل مياه نهر الفرات إليها فقد دمرت الملوحة التربة.
ومع ذلك فقد كانت الزراعة منذ الاف السنين عماد الدول المتطورة التي قامت على مدن مثل أور والممالك القوية التي كانت هذه المدن تندمج فيها في بعض الاحيان.
ويقول كامبل “كان مفتاح جانب كبير من عمل المجتمع يتمثل في الزراعة والتركيز والسيطرة على هذا الفائض لاعالة الكهنة وعمال المعبد والعاملين في التسلسل الهرمي بصفة عامة والجيوش والمنتجين المتخصصين للأدوات المعدنية والفخار وغير ذلك مما كان يجعل الاقتصاد كاملا.”
ويقول عن أور في أوجها إنها في الفترة بين عامي 2600 و2500 قبل الميلاد “كانت مجتمعا بيروقراطيا بشكل هائل” وهو وصف يصلح للعراق الحديث. وكانت سجلات مكتوبة تستخدم لمتابعة حركة انتقال البضائع وللتواصل عبر مسافات طويلة.”
ويستخدم الفريق البريطاني أسلوب التحليل الكيميائي للفخار بحثا عن أي معلومات عن الأطعمة والمشروبات بالاضافة إلى التكنولوجيا المستخدمة في انتاجها. وتفيد مثل هذه الاساليب في تتبع أصول الاحجار والمعادن والأخشاب المستوردة إلى منطقة كانت تفتقر بطبيعتها إلى مثل هذه المواد.
وقالت جين “نحن ندرس المواد البيئية وشذرات صغيرة من العظام والبذور لمحاولة إعادة تصور الاقتصاد ومعرفة ما كان الناس يزرعونه وكيف كانوا يزرعونه.”
القتل في بلاد ما بين النهرين
كان الاثري وولي يركز على الكشف عن المباني لا على التحليل الجزئي. وقد اكتشف حليا وخناجر وقيثارات وغيرها من القطع الفنية المصنوعة من الذهب والفضة والبرونز واللازورد والعقيق وكلها من الأشياء التي حازت اهتماما عاما كبيرا.
وكان مصدر كثير من هذه القطع 16 مقبرة “ملكية” اكتشف فيها “حفر الموت” التي تتضمن رفات خدم قتلوا فيما يبدو لمرافقة ملوكهم وملكاتهم في العالم الآخر. وفي إحدى هذه الحفر رقدت جثث 68 إمرأة وست رجال مرصوصة بعناية فائقة.
ولإدراكه أن الدعاية يمكن أن تسهم في جمع الأموال الضرورية لتمويل التنقيب عن الاثار لعب وولي على وتر المكانة المفترضة لمدينة أور باعتبارها مسقط رأس النبي ابراهيم وربط شواهد على غرق أراضيها بحكايات سومرية عن طوفان عظيم قال إن قصة سيدنا نوح في الانجيل بنيت عليه.
وطعن البعض في هذه الاراء لكنها ساعدت في جلب طوفان من كبار الزوار إلى موقع الحفر في الفترة من 1924 إلى 1932 وكان من بين هؤلاء الزوار الكاتبة أجاثا كريستي وكانت آنذاك مطلقة عمرها 38 سنة وقدر لها أن تتزوج فيما بعد ماكس مالوان أحد مساعدي الأثري وولي.
وبناء على مشاهداتها هناك ألفت كريستي روايتها (جريمة قتل بين النهرين Murder in Mesopotamia) عام 1935 كان الباحث الأثري فيها يشبه وولي وكانت ضحية الجريمة إمرأة فاتنة ومتعجرفة في آن واحد وكانت تشبه زوجته الصعبة كاثرين.
وسئل كامبل عما إذا كانت إمرأة تطمح أن تكون من كتاب الروايات البوليسية قد زارت الموقع في أور فقال “لم يحدث حتى الآن. لكن إذا حدث ذلك فربما يكون مصدر كفالة (مالية) أيضا.”
ويدعم مشروع منطقة أور كل من مجلس الدولة العراقية للاثار والتراث والمعهد البريطاني لدراسة العراق وجامعة مانشستر بالاضافة إلى تبرعات خاصة.
وكانت أعمال الحفر التي أجراها وولي تمت برعاية المتحف البريطاني ومتحف جامعة فيلادلفيا حيث يعرض الكثير من اكتشافاته.
وكانت جرترود بل الباحثة الاثرية والادارية البريطانية في العصر الاستعماري والتي أسست المتحف العراقي في العشرينات وأصبحت رئيسة لقطاع الآثار قد ضمنت بقاء الكثير من أفضل القطع الاثرية المكتشفة في العراق الذي ساعدت في رسم حدوده.
ويقضي قانون للآثار يرجع إلى العام 1932 بأن يسلم الاثريون الأجانب كل ما يكتشفونه للمتحف الوطني العراقي.
وقالت جين “نحن نأخذ عينات علمية لدراستها. أما القطع الفعلية فتبقى حيث تنتمي .. في العراق.”