تركيا تستقبل الجهاديين: الحدود للنفط المهرّب فقط (2)
في بدايات العام الحالي نشبت معركة بين القوات الثورية في الارياف وبين داعش، وخلال عشرة ايام تمكن مقاتلوا القرى وجيش المجاهدين والجبهة الاسلامية من القضاء على داعش بشكل شبه كامل في اغلب مناطق الريفين الحلبي والادلبي، وبقي لداعش مواقع في كفرحمرة واطراف عندان ومطار منغ واعزاز، اي حيث كانت التشكيلات التابعة للجيش الحر تضطهد السكان فذهب ابناء هذه القرى الى احتضان داعش.
ولكن العمود الفقري في معركة طرد داعش كان المدنيون انفسهم في المناطق التي اخرجت منها، سكان الريف هم من قام باحداث التحول الكبير وانقذ سوريا سريعا من خطر داعش، ثم عادت وسقطت عندان وكفرحمرة وحريتان بيد الجيش الحر في وقت لاحق بعد ان اضطر مقاتلو القاعدة العراقية لاخلائها بسبب الضغط الشعبي وحصار القوى الثورية.
و مكان ما تابع لاحدى القوى المقاتلة، اتيح لي مقابلة سجين عربي من القاعدة كان يقاتل في صفوف داعش حين اسر، وهو يشرب الشاي في سجنه ويتحدث عن كفر المجموعات التي تأسره، ويردد دون كلل واقعة ان الحرب قامت بعد ان داس شخص في عندان علم تنظيم القاعدة، ما استدعى ارسال داعش لمجموعات اسناد لعندان لضبط الوضع، ومنعت هذه المجموعات من سلوك الطريق الرابط بين مواقعها (خاصة الفوج 111 ما بين قريتي دارة عزة والشيخ سليمان)، وان المعركة هي مؤامرة لضرب دولة الاسلام. ويتابع ان الجيش الحر كافر، والقوى المحلية الاخرى مرتدة لرفضها الدولة الاسلامية.
هذا السجين لم يتخل قيد انملة عن قناعاته رغم كل ما حصل، ورغم العثور على المئات من الجثث لنساء واطفال سوريون في مقابر جماعية تمتد على طول مناطق سيطرة داعش، ورغم كل ذلك السجين يصف المجموعة التي سجنته بانها مجموعة مرتدة، ويعتبر الجيش الحر كافر، ويوجب قتال المرتد قبل الكافر.
سكان الريف ومقاتلوا الجيش الحر اليوم منقسمون حول جبهة النصرة، ولكن الاغلبية العظمى هي من تعتبر ان النصرة هي داعش ولكن بنسبة ذكاء اعلى، والكل يشاهد كيف تضم النصرة العناصر المتروكة من الاجانب والذين كانوا يقاتلون الى جانب داعش. ويصمتون لعلمهم بان يوما ما سيصلون لمواجهة مع النصرة اذا ما استمرت على سياستها، حتى لو كانت اليوم تشارك في بعض المعارك ضد داعش، وحتى لو كان تاريخها في القتال ضد النظام يشهد لها.
تركيا من ناحيتها، وبعيد انتهاء المعركة ووصول المئات من المقاتلين الداعشيين الفارين من وجه اهالي سوريا الى اراضيها، ونتيجة ضغوط دولية، قررت اغلاق الحدود، وبدأت تتسارع اعمال حفر الخندق الحدودي، وباتت تتعامل بقسوة مع محاولات التهريب، لم يعد العنصر التركي يسمح بالمرور لمن لا يحمل هوية، ولا حتى لمن يحمل هوية ليست له، بل بات يدقق بكل تفاصيل البطاقات، وان كان العبور من تركيا الى سوريا مسموحا بالهوية السورية، فان العبور من سوريا الى تركيا ممنوع من دون جواز سفر رسمي.
هذا الاجراء جديد بالنسبة للسوريين، في الماضي كان يكفي ان تقدم بطاقة هوية سورية حتى يدعك الامن العام التركي تعبر من تركيا الى سوريا، وبحال تم ايقافك على الحدود من سوريا الى تركيا فان حظك في اعادة الكرة بعد ساعة او اقل سيكون اكبر من المرة الاولى، اليوم التشديد الذي تطبقه السلطات التركية غير مبرر بالنسبة للسوريين.
وادت هذه الاجراءات الى ارتفاع اسعار جوازات السفر المزورة، والتي كان يمكن الحصول عليها من دوائر النظام السوري بمبلغ 800 دولار اميركي، وباتت اغلب الجوازات لا تعمل على الحدود التركية، وتلك الصادرة عن الدوائر الرسمية السورية بموجب رشوات كبيرة يدقق فيها الاتراك كونها حديثة الاصدار، ولا تحمل اي دمغة وتم اصدارها في نهاية العام 2013 او بداية 2014، وبالتالي فانها لم تعط اصحابها حرية الحركة المطلوبة في العبور من جانب الى اخر.
وعلى امتداد مسافة 52 كيلومترا من الحدود المشتركة بين البلدين كان يمكننا مشاهدة الاجراءات التركية، حيث تم حفر الخندق ومنع المدنيون من عبوره، ولو تمت رشوة الجنود الاتراك بالدخان كما جرت العادة في الاعوام الاخيرة.
يلقي رجل سوريا بثلاث علب دخان الى جندي تركي، احد المهربين ينصح الراشي بتوفير دخانه “هؤلاء مجندون، تماما مثل المجندين لدينا، لا يمكنهم فعل اي شيء”، يصرخ الذي ارسل الدخان الى الجندي التركي “الله لا يسامحك”. بينما يبتسم الجندي ويقول تشكرات، ويشعل سيجارة.
المهربون يقفون لا حول لهم ولا قوة، نسأل احدهم عن الوضع “لا اعرف ماذا اقول لك، منذ الصباح لم يعبر اي شخص، وهناك المئات ينتظرون، ولا يميز الاتراك بين رجل وامرأة، هم يوقفون اي كان ويضربون الذين يحاولون الهروب، سواء اكان رجلا ام عجوزا ام طفلا، ولا تنتظروا الليل ففي الليل يتم تبديل الضباط”.لم يعد من السهل العبور من فوق الخنادق، ومن يحاول ويقع بين ايدي حرس الحدود التركي يتعرض للضرب، سواء اكان طفلا او امرأة او كهلا او شابا، وتتم اعادته الى سوريا فورا من نفس الطريق التي عبرها.
وفي حين كان الرجل يتحدث عن صعوبة التهريب، كانت عائلة سورية تتعرض للضرب على ايدي جنود اتراك فيما يراقبهم عن كثب عنصر تركي يرتدي ثيابا مدنيا ويظهر تحت كنزته القطنية مسدسه، ثم تتم اعادة العائلة لتعبر مجددا الخندق الذي سبق ان اجتازته في محاولتها العبور.
52 كيلومترا، يمكنك في بعض مسالكها مشاهدة بلدة الريحانية التي تضخمت بفعل الهجرة السورية، وحيث يقول لك بعض ابنائها انها تنشط بالحياة والتجارة بعد الهجرة السورية غير الشرعية اليها، بينما يقول اخرون انهم تعرضوا لاجتياح السوريين، بعد ان كانت بلدتهم سياحية وهادئة وممرا يرتاح فيه القادمون الى تركيا برا من سوريا.
ومن اعالي الجبال المطلة على الريحانية من الجانب السوري يمكن مشاهدة رتل الشاحنات الكبيرة، والتي تصطف خلف بعضها، بعد ان منعت السلطات التركية عبورها الى سوريا، فراح اصحابها يصطفون في الدور بانتظار عبور معدوم في بعض الايام وبطيء لا يتجاوز 50 شاحنة في اليوم، في حين ان عدد الشاحنات المنتظرة يتضاعف كل يوم حتى تحدث البعض عن اربعين كيلومترا من الشاحنات المنتظرة.
غير بعيد الا بضعة كيلومترات تنشط حركة اخرى على الحدود المغلقة، عشرات من خراطيم المياه الغليظة تمتد من الجانب السوري الى الجانب التركي، تمر في الجانب السوري فوق الارض، وصولا الى امتار قبل الخندق الحدودي، ثم تختفي تحت الارض ولكنها تعود لتظهر في الخندق مكشوفة لكل من يرغب ان يرى، ولمن يملك من الجرأة ما يكفي لتصويرها تحت انظار الحراسة التركية.
عند وصول اعمال حفر الخندق الى هذه الناحية من الحدود المشتركة، قامت الشرطة التركية وحرس الحدود باغلاق الحدود بشكل كامل، وقمعت المخالفات بقسوة، وفي النصف الاخير من شهر كانون الثاني 2014 قطعت كل انابيب النفط، التي تهرب الماوزت السوري، والثروة السورية، الى تركيا بابخس الاسعار، ثم بعدها بايام، وبعد استكمال حفر النفق، اعيد مد الخراطيم ثانية، وكما المرة الاولى، برعاية رسمية من بعض مجموعات الجيش الحر في الجانب السوري، وببعض المتنفذين الاتراك.
النفط يعبر كل الوقت، وان كان هناك اوقات ليلية للتهريب الكبير، وفي الجانب السوري قرب الانابيب نشأ ما يشبه قرية اعمال، او منطقة صناعية، دزينات من السيارات الناقلة للنفط والمازوت من دير الزور الى الحدود مع تركيا، البعض يهرب النفط المكرر محليا والبعض يهرب النفط الواصل من مناطق النظام، النفط يأتي من مناطق العشائر باسعار خيالية، حيث تم وضع اليد على الابار من دون كلفة، وامنت العشائر حمايته، ويروي مقاتلون من الجيش الحر انتدبوا الى دير الزور وعادوا ثانية الى حلب ان ابار النفط هناك تحميها العشائر باسلحة “نحلم بالحصول عليها هنا في حلب” ومنها يصدر النفط ويتجه الى كل الاطراف.
وفي المنطقة الصناعية الخاصة بالتهريب، وقرب برج مراقبة تركي نمت اعمال بسيطة، مشاوي وخيم تبيع السندويشات والمرطبات وورشات صغيرة مرتجلة لاصلاح السيارات، اي كل ما يلزم لتتم عمليات المهربين بيسر وراحة. بينما بهت لون الشجر وتركت الارض دون عناية بعد ان بات اصحابها في غنى عن اعمال الزراعة الشاقة.
بعد قرية الحامضة السورية وعلى ضفة نهر العاصي السورية امتدت اقنية تهريب من نوع اخر، ثمة شبكة هنا للتهريب سوية تركية مشتركة، يحمل اعضاؤها اجهزة لاسلكية للتواصل مع بعضهم البعض، هذه الشبكة تستخدم مجرى النهر لتعبر، وغير بعيد عن ثكنة تركية صغيرة وتحت اعين برج المراقبة التركي الضخم.
الا ان الامور لا تجري بهذه البساطة، فاغلب الاوقات ينتشر جنود اتراك على الضفة التركية، يمنعون اي كان من الاقتراب من ضفتهم، ما عدا المزارعون الاتراك، الذين يتحركون بالجرارات الزراعية الموصولة بقاطرات صغيرة للتحميل. وعلى الضفة السورية تنتشر العائلات السورية التي اتت من مختلف المناطق، ازمة اللجوء تزداد، والاجراءات التركية تعيق رحيل اللاجئين الى ارض امنة، بعد ان حول النظام حلب الى ارض محروقة بالبراميل المتساقطة من طائراته منذ بداية العام الحالي.
العائلات السورية تحمل ما خف وزنه من ثياب واغراض، وتنتظر رحمة الضابط التركي الذي سيترك حيزا صغيرا كل بضعة ساعات لعبور اللاجئين، وهو اجراء ينتظره المهربون، واداة تهريبهم حلة طبخ ضخمة، تتسع لسبعة اشخاص، وسعر الانتقال من ضفة الى اخرى 250 ليرة سورية (1.60 دولار اميركي)، ومن الضفة الاخرى سيطلب سائق الجرار الزراعي 500 ليرة سورية (3.30 دولار اميركي) لنقلك الى قرية حجي باشا التركية، قرب موقف الباصات.
الجنود الاتراك يبقون كل النهار، ومع سقوط الظلام لا يرحل هؤلاء، بل تصل سيارات حرس الحدود، وتبدأ عملية تهريب بالتقسيط، لا يقطع الجنود الاتراك الحبال الممتدة بين ضفتي النهر، بل يتركونها وكأنها هنا منذ الازل، ولكنهم يلاحقون العابرين، ويحرقون الاعشاب حول المرتفع الصغير الذي يستخدمه العابرون للوصول الى الارض الزراعية، لمنعهم من الاختباء بين الاعشاب، ثم ترحل سيارة الدورية التركية، وتعود اعمال التهريب، وعلى مسافة 500 متر يمكن مشاهدة ثلاثة معابر مائية تنتظر حلل الطبخ الى جانبها في النهار، وتنشط في عبورها ليلا.
المهرب في الضفة السورية يغتاظ من تشديد الضابط، تلقائيا يخبرك ان هناك عدة ساعات في اليوم متروكة للعبور الحر، ولكن الضابط الموجود حاليا يبالغ في المنع، ويصرخ المهرب السوري عبر جهاز الارسال اللاسلكي لزميله التركي “قل لهذا الضابط انه لو كان رجلا لاتى الى هنا”. ثم يصمت، وبعد ان يمنع الضابط دفعة اخرى من العابرين ويعيدها يعود المهرب للصراخ في جهازه “سأقيم له عرسا مشهودا الليلة”.
مهرب اخر على مبعدة مئة متر من الاول يجلس القرفصاء على الضفة شديدة الانحدار، وحوله يجلس العشرات من المنتظرين لدورهم في العبور، بينما تقف سيارة حرس الحدود او الجندرمة امامهم على الضفة الاخر، ومن داخل السيارة يتحدث الضابط عبر الميكروفون الى المهرب، والجنود الاتراك يبحثون بين الاعشاب عن سوريين هربوا الى ضفتهم.
يسمع الجميع صوت الضابط التركي وهو يتحدث، بينما الاضواء الكشافة تضيء العتمة، والنيران المشتعلة في الاعشاب على الجانب التركي تشي بدفء مفقود في صقيع الليلة السورية، المهرب السوري يقول “تمام تمام” ويتحدث بالتركية مجيبا الصوت الصادر من السيارة المصفحة التركية، ثم يضيف مخاطبا احد الجنود الاتراك “قل لضابطك ان السهرة طويلة الليلة، السهرة صبّاحية (حتى الصباح)، والكل سيدخل هذه الليلة (الى الاراضي التركية)”.
في الجانب التركي، وبعد ان يقطع المهرب التركي بجراره المنطقة الزراعية مخفيا 14 لاجئ ولاجئة سوريين في المقطورة الصغيرة، ويقبض مبلغ 7000 ليرة منهم (حوالي 47 دولار اميركي)، يتركهم امام موقف الباصات في قرية الحجة باشا، حيث تقف الباصات التركية المتجهة الى كل المناطق القريبة، هناك سيكون قد تجمع مئات من اللاجئين بعائلاتهم واطفالهم، من مختلف المناطق السورية الحدودية، من حلب الى اللاذقية، عبر اكثر من عشرة مناطق نهرية للتهريب بحلل الطبخ، وستضاعف الباصات التركية من اجرة نقلهم الى وجهاتهم، سواء الريحانية او انطاكيا، ليحلوا بشكل غير شرعي على قائمة اللاجئين المضطرين للعمل في تركيا او العودة الى الموت في سوريا.
بالاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة