“ماذا تنتظر القردة”؟
“ماذا تنتظر القردة؟”… وإلى متى… لتسترد هيئتها الإنسانية؟ هو آخر ما صدر للرّوائي الجزائري “ياسمينة خضراء” عن دار القصبة للنشر ودار جوليار الفرنسية. وعلى منوال القصص البوليسية الإنجليزية لـ”جايمس هايدلي تشايز”، أعطت الصّفحات الأولى للرّواية إيقاعًا خاصًا تهتز له القلوب وترتعش من هوله الأبدان: منظر فتاة جزائرية عارية عثُر عليها ميتةً وملقاةً تحت ظلّ أحد الصخور، وحدها أكاليل من الزّهور البرّية تحيط بها، وقد بدا على أحد ثدييهها نهشة عليها آثار أسنان إنسان! “كانت هناك، على ضفاف بحيرة جفّت مياهها، والجسد جثة هامدة دون حراك لن تزعزعه حتّى حفيف الشّجيرات الصّغيرة ولا حتّى زحف أفعى أخذت تنزلق بين وركي الجثّة. ومن خلال هذا المنظر الذّي يبدو كحلم وفي الوقت الذّي يستيقظ فيه العالم على جميع متناقضاته ها هي الجميلة النّائمة كانت قد قطعت كلّ حبل يصلها بسحر القصص والرّوايات ولذا فهي لن تستيقظ، إذ لم تعدّ تصدّق أن يأتيها الأمير الوسيم ليطبع على شفتيها قبلة بل ولا حتّى أية قبلة يمكن أن تعيد الرّوح لجسدها الهامد. إنّها مستلقاة هنا، وهذا يكفي. إنّها تبدو رائعة ومرعبة في الوقت ذاته، كذبيحة تقدّم للآلهة…”
مرة أخرى، يأخذنا “ياسمينة خضراء” إلى الغوص في أعماق خلجات نفوس شخصيات همّها الوحيد هو تحريك الأشخاص عن بعد واللّهو بهم كدمى العاج في المحاريب ولا يهمها بتاتًا حتّى وإن داست على كرامة إنسان بل أسوأ من ذلك ففي اعتقادها أنّ القانون لا ينطبق عليها، بل تجد نفسها فوق جميع القوانين. ولم لا! “فهناك أشخاص فوق القانون، إنّهم يعيشون تحت ظلال حصانة تامة وهم واعون بهذا الأمر، وهذا ما يزيدهم وقاحة على وقاحة”.
أشخاص يتدثرون بنظام وصفه الرّاوي بنظام “شبح” كما صرّح بذلك مؤخرًا في حواره مع جريدة “ج.د.د.” الفرنسية. هؤلاء الأشخاص يطلق عليهم اسم “الربوبة” (أي آلهة)، وفي مقدّمة الكتاب، يحذّر “ياسمينة خضراء” القارئ عبر هذه السّطور: “هناك من يطلقون صرخات ويهولون الأشياء لرؤية شعاع أو قبسة من نور عند نهاية النّفق بل يضغطون على أيّ يدّ إلى حدّ الكسر إذا حاولت الوصول إليهم. في الجزائر، يطلق على هذا الفئة بـ”بني كلبون” (أي أبناء الكلاب). وهذا ثالوثهم الخاص: طبيعتهم الكذب، ومبدأهم الغشّ وإلهامهم التّشويش، هذه هي روايتهم”.
موت مُتقن ومُقنّع ومُخضّب بالحناء، هذه الذّبيحة المستلقاة اسمها “نجمة” كنجمة متلألئة في السّماء، إلاّ أنّها ممدّدة على فراش من تراب بمقربة صخور تطلّ على مدينة الجزائر، “الجزائر العاصمة البيضاء، بيضاء كطريق خالية”. ها هو مركز الشّرطة للعاصمة يفتح تحقيقًا عن هذا الموت المريع والوحشي، ومفوّض الشّرطة ليس إلاّ امرأة ويبدو أنّ وجودها على رأس الشّرطة يزعج الكثير من زملائها الرّجال، كيف لا، و”في مجتمع ذكوري، مجرد كونك امرأة وترأسين رجالاً هو ثقل في حدّ ذاته بل هي غباوة بعينها”.
ويلتقي القارئ من خلال هذه الرّواية بشخصيات كـ”هامرلين” الطّاغية والذّي جعل من نفسه سيّد العاصمة محتميًا تحت لواء “حامي الوطن”، وهناك “نورة” مفوّضة الشّرطة والمرأة الغامض سرّها، والمفتش “زين” والذّي أبتلي بعجز جنسي إثر عملية إرهابية شهدها خلال العشرية الدّموية السّوداء التّي عرفتها الجزائر وكان ضحيةً لها، وأيضًا الملازم “جيرد” وهو شخص ذو طباع ذكورية متسلّطة ويُشمئز لها و”سيد أحمد” الصّحفي المُخضرم والذّي فرّ من أهوال العاصمة بعد وفاة زوجته، حيث اغتيلت على يدّ الإرهابيين والتجأ إلى منزل صغير قرب شواطئ البحر ليتناسى غبنه وحزنه. هذه هي الشّخصيات الأربع الأساسية التّي تُبنى عليها حبكة القصة وعقدتها والتّي تُحيكها جثة الفتاة الجميلة “نجمة”. وها هو صاحبنا الصّحفي “سيد أحمد” وصديق المفتش “زين” ينبهه وهو يستحضر ذكريات زوجته الرّاحلة تاركة له فراغًا ووحشةً يصعب عليه تحمّلها: “المرأة لا تتكلّم، المرأة تعلّمنا، واحذر إن غابت عنك كلمةً واحدةً منها لفظتها شفتاها، إذا حدث ذلك فلتقل إنّ حكايتك ذهبت هباءً منثورَا ولتلق على نفسك السّلام”.
ومن خلال روايته هذه، يصف لنا “ياسمينة خضراء” مجتمعًا جزائريًا مُجزأ إلى فئتين اثنتين: “أصحاب القرار والذّي يكمن همّهم الوحيد في بناء الفيلات لأولادهم بدل تشييد الوطن، فلا يغرنّك مظهرهم، فقد تجد أصحاب المواهب والمثّقفين منهمكين في قاع أكشاك الطّباخين ليتمكّن لهم من معيشة كريمة وسدّ رمقهم وحاجياتهم المادية إلى نهاية الشّهر” وشعب كفّ عن الحلم منذ عهد خلا ووجّه حبّه ومشاعره المكبوتة كلّها صوب “الجلد المنفوخ”: “لم يبق لنا إلاّ الفريق الوطني لتناسي مآسينا، إنّه بمثابة دواء ناجع لنا وجرعتنا المستحضرة لنستطبّ بها، إذن فلم لا يجعل حُكامنا موتنا أقلّ هونًا من معيشتنا؟”.
هذا صحيح، لكن من وراء هذا الاغتيال الفظيع الذّي ارتكب في حقّ “نجمة صادق”؟ وما هي الأسباب التّي دفعتهم لارتكابه؟ كلّ المؤشّرات توجّه أصبع الاتهام نحو شخصية “هامرلين” المهيمنة، لم لا؟ فمن الممكن أن يكون هو وراء هذا المصرع، لكن من يثبت ذلك؟ بل من يمكنه أن يعدل في قضية اغتيال الفتاة “نجمة” ويقتص لها؟ للأسف، يبدو أنّ العدالة تجسّدها صورة امرأة تحمل “عصّابة على عينيها وكأنّها تحاول إخفاء ضررها. وبالتّالي فهي لن تنظر أبدًا تجاه الضّعفاء والمستضعفين، حتّى الطّبيعة تقوم على مبدأ الانتقاء، كما أنّ القضاء والقدر لا يمهل إلاّ الأغنياء وأصحاب الجاه والأموال، العالم بطبيعته هو ظالم”.
ويستحضر لنا الكاتب لمحة عن بعض الأشخاص مستعدّين لفعل أيّ شيء حتّى وإن لزمهم الأمر تقويس ظهورهم والرّكوع أمام الغير من أجل اعتلاء مناصب، ماذا أقول لكم؟ “… في عالم حيث قياصرة جمهورية أُخفق في تشييدها خلال مراهقتها لا مجال لعزّة النّفس ولا حتّى للحبّ ذاته ولاعتلاء مناصب يتحتّم على المرء الغوص في بركة المذلة ولن يتمكّن له من الخروج والوصول إلى برّ الأمان، إن كان هناك أمان، إلاّ بترخيص” فعلى ما يبدو أنّ “كبرياء النّفس والمهنة لا يمكنهما التّعايش معًا”.
وداخل منزل “هامرلين” نجد أنفسنا أمام مشهد تتقزّز له النفوس وتعافه الأرواح، ها هي عشيقة قديمة له تحاول الاستنجاد به ليتوسط لها حتّى يتمكّن لزوجها تبوأ أحد المناصب الدبلوماسية في الدّولة، لكنّ “هامرلين” سيذعن لمطالبها شريطة أن تؤدّي أمام عينيه مشهدًا إباحيًا مثيرًا يُشبع نزواته الجنسية الحبيسة والدّفينة، وماذا نقول إن كان: “كلّ شخص يثابر عمّا لا يمتلكه” وأنّه “في بلد حيث الرّاشي والمرتشي أصبحت صفة يُفتخر ويُعتزّ بها، ولذا كان على المحتال أن يشدّ وسطه ويتحذّر ليصل بعيدًا”، لكنّ “إلى متى تنتظر القردة حتّى تسترد هيئتها الإنسانية؟”
هذا هو عنوان الكتاب الذّي اقترحه “ياسمينة خضراء” على قرائه، فأيّ دلالات يخفيه عنوان الرّواية؟ ماذا يقصد الكاتب؟ هل هو بصدد الحديث عن نظرية “داروين” وتطوّر الإنسان تدريجيًا من صفة القرد إلى صفة الإنسان؟ أم أنّ العنوان يشير إلى قانون الغاب حيث القويّ يأكل ويلتهم الضّعيف؟ أولا يكون يرمز حتّى إلى أسطورة المسخ يوم تجبّر الإنسان وطغى على نعم الإله الرّحمن ومسخه إلى قرد لمعاقبته؟ أو أنّه يريد به الحديث عن كرامة الإنسان في الوقت الذّي لم يعدّ للكرامة عيش يُطاب لها، ربّما يكون هذا أو يكون ذاك أو شيئًا غيره. على كلّ حال، فالمتطلّع لغلاف الكتاب يشاهد رسمًا لظلي إنسانين، الأوّل نشاهده واقفًا في مأمن بعيدًا على حافة سكك حديدية في وضعية عمودية ورجليه مفرجتين وهي وضعية ترمز إلى القوّة. عكس الظّل الثّاني، الذّي يتواجد وسط السّكك الحديدية وهي وضعية انتحارية، وظهر ظلّ هذا الإنسان مقوّس كالقرود وهي وضعية ترمز إلى الضّعف. والاثنان متواجدان في نهاية ممرّ بيد أنّ القارئ لا يرى تمامًا الممرّ (وحتّى أنّنا نتساءل إن كان هناك وجود لممرّ؟) إلاّ أنّ النّور الأبيض والذّي يمكن أن يرمز إلى نور الحياة يمكن مشاهدته على غلاف الكتاب. لكن، ألا يجب إدراك أولاً أنّ: “الحياة ما هي إلاّ منافسة. هناك من يرضخون العالم ويجعلونه يترنح تحت أقدامهم وهناك من يُداس على أقدامهم دون أن ينبس ببنت شفة؟”
ويبدو أنّ التّحقيق الذّي تقوم به مفوّضة الشّرطة “نورة” مدسوس بالأشواك، احذروا فالتّحقيق يمكن أن يسفر عن أشياء مشحونة بروائح كريهة! إلاّ أنّه: “لا يمكن أن نفرض على مزبلة أو حاوية أن تطلق روائح زكيّة”. فلنتساءل لهنيهات: “هل نحن، حقًا، مذنبون بوكالة وضحايا على خطأ؟”.
من يتجرأ على اتهام “هامرلين”؟ وكيف؟ أليس هو ذاك الشّخص الذّي أنقذ البلاد من المستعمر الغاشم؟ ألم يكن بطل الجزائر المستقلّة؟ “الأبطال الحقيقيون أعدمتموهم بأنفسكم أكان ذلك شنقًا في غرف فنادق أو قتلاً بالرّصاص في مزارع مهجورة”، يردّ المفتش “زين”.
“لم أطلب من أحد أن أكون مستبدًا، لا أدري كيف حدث ذلك، كلّ شيء يبتدئ من لا شيء أو من أشياء تافهة: بلباقة بسيطة، بتوسّط خجول وآخر مدعّم، بشكر على طرف الشّفاه، بقبلة على الجبين وأخرى على اليدين وبعدها قبلة أخرى على القدمين لحدّ أنّه يتعذّر عليك الاعتلاء إلى مناصب سامية دون أن تدوس على جثث المعجبين بك. وهكذا يشرعون في اختلاق مزايا لا تكتسبها بل تكون غريبًا عنها وخصائل حميدة لم تشك يومًا في تواجدها ومداعبتك بالقفازات اللّينة والحريرية وتمجيدك وتقديسك إلى حدّ أنّ الرّيح الذّي يخرج منك يصبح نوعًا من البخور والعنبر العطرة. وهكذا عندما تستيقظ يومًا ما تجد نفسك قد أصبحت قائدًا”، هذا ما ردّ به “هامرلين” للمفتش “زين”.
وعندما يقوم الأشخاص بانتهاك واختراق المبادئ، هذا إذا كان لديهم أساسًا مبدأ، يمكن ولسخرية القدر، أن يحدث للإنسان أن تنقلب عليه الموازين ويجد نفسه قد أصابه الشّر ذاته الذّي نفثه على الآخرين، إذ يبدو أنّ “نجمة صادق” هي الحفيدة المجهولة لـ”هامرلين” الطّاغية.
“لم أشأ أن أكون طاغيةً ولا ممجدًا، لقد أُجبرت على تجسيد سيادة عظيمة كانت بمثابة ترسانة أحمي بها شخصيتي الصّغيرة. السّلطة ليست إلاّ سحرًا مريعًا، إنّها ملكية جهنمية وجنون بكلّ معنى الكلمة. إذا أصابك داؤها يعسر عليك دواؤها، إنّها تخلّ بعقلك وتدفعك إلى النّشوة لتصفق بكفيك قائلاً: “افتح يا سمسم” والسّحر يعطي مفعوله، ويتحقّق مرادك. بل أعظم من ذلك، حينها تصبح نكبة للبعض ومعجزة للبعض الآخر حتّى إنّ الرّب العالي لا يمكنه أن يجاري حذقك، فالحياة والموت يكونا بين مقبض يديك وتسيطر عليهما”.
لكن ما ذنب “نجمة صادق” في كلّ هذا؟ يبدو أنّ هذه ليست مشكلة “هامرلين”، بالفعل “ففي الجزائر عندما تكون لديك مشكلة تظلّ مشكلتك وحدك!”
إذن فلتشدّوا جيّدًا أحزمتكم فالتّحليق نحو هذه الرّواية يمكن أن يكون عنيفًا ووجهة الوصول “إلى متى تنتظر القردة حتّى تسترد هيئتها الإنسانية؟” يمكن أن تعبرها اضطرابات جويّة والسّفر يمكن أن يدوم حسب تقلّبات الأحداث ساعتين ونصف بالنّسبة لمطالع حاذق. وفي انتظار هبوط الطّائرة الفكرية إلى مطار الواقع، يمكنكم خلالها وضع سماعات “الآي باد” على الأذنين لتنطلق منه أشجان موسيقى “تشي مي” لـ”إينيو موريكوني”.
(http://www.youtube.com/watch?v=3SI1E2wZ9Dc)