“بيضاء الثّلج”، تحيي قصص “غريم” على مسارح أوبرا قصر “فيرساي”
نصيرة بلامين
جريدة “لوموند” الفرنسية كأنّها حاورت أو تجسّست على سريرة نفسي عمّا كنت أقرأه منذ نعومة أظافري… وكُتب فيما كُتب في ركن الثقافة عن “سنو وايت”، حسب التّعبير الإنجليزي، أو “بيضاء الثلج” وقضم التّفاحة الحمراء المسمومة. الجريدة عنونت المقال على النّحو التّالي: “بيضاء الثّلج في قبضة قوانين الرّغبات”. روسيتا بواسوه، كاتبة المقال، افتتحت كتابتها بالأسطر التّالية:
(معرفة رواية قصّة هو تحدّ في حدّ ذاته)، وهنا توقفت « Savoir raconter une histoire est toujours un défi… »
لهنيهات، وقلت لنفسي: “أتكون صدفة قدر، أو أنّ شخصًا ما أصبح يقتفي آثار كلماتي ويجعل لها عيونًا تتبعها حيثما خُطّت وكيفما تسلسلت وعبرت عن دلالة أفكاري،… لربّما رسالة من تحت السّطور بدل أن تكون رسالة من تحت الماء، رسالة من عمق الدلالات…”، أن تكون رسالة أو لا تكون… أن تكون صدفة أو لا تكون… هذه ليست مشكلة… لم أقرأ المقال لتوّه، لأنّ بالي كان مشغولاً أو كنت مشغولةً ببالي… الحقيقة أنّني لم أكنّ أفكّر بل كنت أسير… وتركت فكري سارحًا بعيدًا، وكنت أيضًا سارحةً عن فكري، وتخليت عن قراءة المقال إلى حين… وصلت إلى ساحة “أوديون”، وهي أوّل ساحة تبنيتها: مباني السوربون الشّاهقة، لم يستهويني علوّها بل عمقها وتاريخها، هذا البانتيون التّاريخي عبّره كبار المفكّرين والفلاسفة كـ”ديكارت”، و”فيكتور كوزان” و”فرانسوا غيزوه” وغيرهم، عشقي الثّاني للسّاحات تليها ساحة “سان ميشال” وحيّها المشهور «الحيّ اللّاتيني»، بجنسياتها المختلفة، ومطاعمها الفرنسية العتيقة، ومطاعمها الشّرقية والمغاربية إلى جانب الفرنسية وغيرها… الحيّ يشعّ بحيوته، ينفخ فيك روح الحياة وبسمتها، وكذلك بأكشاك الكتب كـ”جيبلبير جون” و”جيبلبير جوزيف” وغيرها… طرقاتها العتيقة والضّيقة تذكّرني بأحياء القصبة في الجزائر ولو أنّ الشّبه معدوم لكنّ شيئًا ما جعل المقارنة في نظري موجودة وحتّى وإن لم تتواجد في نظر الغير، لربّما طرقها المعبّدة بالحجارة… وأناسها… شيء ما شدّني إلى هذا الحيّ… وأنا أسير في شارع “سان ميشال”، استرعى انتباهي مجلة أدبية “لاروفيو ليتيرير” (La Revue littéraire) في عدد قديم رقم 369 لشهر أكتوبر 1989، خصّصته لملفّ يحمل عنوان “المثقّف المهيمن لبيير بورديو” كانت معلّقة في إحدى مكاتب التّبغ، ورددت في أعماقي نفسي، “بيير بورديو، صاحب نظرية «العنف الرّمزي» (La violence symbolique)، وهي نظرية طوّرها مع “جون كلود باسورون” في كتاب مشترك صدر عن دار “مينويه” للنّشر الفرنسية عام 1970 تحت عنوان: “الاستنساخ، معطيات نظرية نظام التّعليم”، وتقوم نظرية “العنف الرّمزي” على تأسيس سلطة مجهولة، هذه السّلطة هي سلطة العنف الرّمزي التّي تمكّن من فرض شرعية الدّلالات كسلطة شرعية مع التّستر على علاقات القوى التّي تقف وراءها… “سلطة الدّلالات”، هكذا ردّدتها… أظنّ أنّي كنت “بين سلطة الدّلالات”… أو ربّما مجرّد تخيّلات من صنع فكري… لا بأس… واصلت سيري واتجهت نحو “جيلبار جوزيف”، واستوقفني قليلاً عنوان كتاب في جزئه الثاني وهو للور أدلير وستيفان بولمان “النساء اللّواتي يقرأن الكتب، هنّ نساء خطيرات، أكثر بكثير”، فقلت لنفسي، العنوان يلخّص الفكرة الخاطئة والشّائعة عن النّساء منذ القدم، فهنّ لا خطيرات ولا ساحرات بل «مخلوق يفكّر مثلها مثل الرّجل»، وتطالب بحياة مثلها مثل الرّجل، لا غير،… لم أشأ الغوص في فلسفة مع نفسي، فهذا لا يجدي نفعًا… ودخلت الكشك، وأخذت أتجول داخله لعلّ وعسى تقع عيني على كلمة ما… أو عبارة خطّت هنا أو هناك… كتاب عن “إيف مونوتوه”، وعن “مارلين مونروه”، وآخر عن “كولوش”، يحمل عنوانًا: “الفقراء هم أغبياء”، تصفحت الكتاب وقرأت جملةً وردت عن “كولوش” في إحدى استعراضاته الفكاهية: “الثورة كالحرب فيها الكثير من الموتى”… توجّهت نحو الطّابق الأعلى… ووجدت نفسي أمام “فرانز كافكا”، أقصد، كتابه: “المحاكمة” الشّهير، يروي عن محاكمة شخص دون ذنب اقترفه… بدأت أتنقل بين طاولات الكتب، هاه “مارغريت دوراس” صاحبة: “الكتابة تجعلك متوحشًا”، و”الألم”، و”الموسيقى الثانية”، و”اكتب”، قلت في نفسي هذه المرأة جريئة تذكّرني في النّساء العربيات البدويات صلبات وعنيدات، غير بعيد كتاب لهاروكي موراكامي: “شخصان جمعهما عهد سريّ”، رفعت نظري قليلاً إلى الحائط حيث كان مستندًا إليه الكتاب، وكانت ورقة معلّقةَ خطّ عليها مقولة لغريغوار لاكرواه، وهو صحفي وكاتب وشاعر فرنسي: “هل يجدي نفعًا أن نمتلك ورود الدّنيا كلّها إذا لم نكن نعرف لمن نهب واحدة منها؟”، قلت لنفسي وهل ضروري أن نعرف شخصًا حتّى نهدي له ورودًا؟… ثمّ تذكرت مقولة الأديب يوسف القعيد: “المثقف الآن وردة حمراء في عروة بدلة النّظام”… واصلت تنقلي بين الطّاولات… وتوقفت بل أوقفني كتاب جون بول سارتر: “الأيدي الوسخة” وابتسمت، تصفحت وريقاته لأصل إلى عبارته هذه: “لي أيادي وسخة حتّى المعصمين، ملطّخة بالرّوث والدّماء”… خرجت من “جيبلبير جوزيف” ودخلت نفق الميترو نحو وجهة محدّدة…
ويخبرنا مقال جريدة “ديراكت ماتان”. أيضاً عن .. بيضاء الثلج… ويقول إنّ قسوة الحكاية تنبثق بين ساقي البطلة التّي تقوم بفتحهما وطيّهما، الحكاية تُروى في رقصات تقوم بخطواتها الرّاقصة اليبانية الرّشيقة “ناغيشا شيراي” في باليه لـ”أنجولين بريلجوكاج”. في حلّة جديدة، عادت “بيضاء الثّلج” في ديكور قصر فيرساي بين اللّون الذّهبي والأحمر، في جسد مغرّ وثوب أبيض شفاف مفتّق على طول ساقيها، موضوع الرّغبات والجنس يطغى على باليه بريلجوكاج رشاقة الحركات ودقّتها… الباليه يفتتح برقصات والدة “بيضاء الثّلج” وهي حامل مرتدية فستانًا أسودَ متجهة نحو زاوية معيّنة في المرقص لتضع جنينها، إيقاع الرّقصات تترنّح بين مظاهر الأنوثة، ومراحل الطّفولة والميول الجنسية… إيقاع على نوتات تتخلّلها الحساسية بكلّ براءة… جميع زوايا الثقافة تنظر إلى الأميرة فهل يقضم الجميع في التفاحة؟
“بيضاء الثّلج”، تعرض في أوبرا رويال بقصر فرساي حتّى 23 من كانون الأول/ديسمبر الجاري.