“الأسود يليق بك” لأحلام مستغانمي
«لشدّة رغبته بها، قرّر قتلها كي يستعيد نفسه، وإذا به يموت معها، فسيف العشق كسيف الساموراي، من قوانينه اقتسام الضّربة القاتلة بين السيّاف والقتيل».
هذه إحدى الجمل التّي التقطناها من الصفحات الأولى للرّواية الأخيرة للكاتبة الجزائرية “أحلام مستغانمي”: “الأسود يليق بك”، صدرتها دار نوفل للنّشر اللّبنانية، ومن خلالها يمكن للقارئ أن يستوعب للتوّ نهاية درامية لقصة حبّ معقّدة جدًا، فلما يا تُرى قامت الكاتبة باللّجوء إلى استباق الأحداث والإعلان الدرامي لخاتمة رواية لا يعلم عنها القارئ شيئًا سوى عنوانها: “الأسود يليق بك”؟
السؤال يبدو صعبًا، لأنّ الإجابة عليه تحتم قراءة الرّواية أولاً، فـ”أحلام مستغانمي” التّي عودتنا لاسيما من خلال ثلاثيتها: “ذاكرة الجسد” و”عابر سرير” وفوضى الحواس” اتباع تسلسل أحداث قصة حبّ وإيهامنا تارة بتعلّق الحبيب بالمحبوب وتارة أخرى انفصالهما بل حتّى إلقاء الغموض على الخاتمة بين المحبوبين، هاهي تكشف لنا هذه المرة عن الخاتمة وهذا ما يزيد القارئ شغفًا لقراءة المزيد عن الرّواية، خاصة عندما تقوم الكاتبة بنوع من التّحليل النفساني (؟) السوسيولوجي عن الأسباب الغامضة التّي تؤدّي إلى افتراق عاشقين: «لسنوات، يظلّ العشّاق حائرين في أسباب الفراق. يتساءلون: من ترى دسّ لهم السمّ في تفاحة الحبّ، أو يتوقّع نواياه الإجرامية. ذلك أنّ الحبّ سلطان فوق الشّبهات، لولا أنّه يغار من عشّاقه، لذا يظلّ العشّاق في خطر، كلّما زايدوا على الحبّ حبًّا».
وتضيف الكاتبة من خلال مقطع لهذه الرّواية أنّ فراق العاشقين أكثر من يعصف به ويتأذى منه هو الرّجل: «كان عليه إذا، أن يحبّها أقلّ، لكنّه يحلو له أن ينازل الحبّ ويهزمه إغداقًا، هو لا يعرف للحبّ مذهبًا خارج التّطرف، رافعًا سقف قصّته إلى حدود الأساطير، وحينها يضحك الحبّ منه كثيرًا، ويرديه قتيلاً، مضرجًا بأوهامه».
وهذه الطريقة التّي لجأت إليها “أحلام مستغانمي” هي طريقة أخرى لسرد الرّوايات والمتمثلة في استهلال الحكاية بالخاتمة قبل العودة إلى الوراء عن طريق “فلاش باك” على شاكلة الأفلام السّينمائية.
ويتناول الكتاب قصة حبّ بين شابة جزائرية “هالة” في العقد العشرين وهي مغنية ― كانت قبل معلّمة في أحد المدارس لكنّها أُجبرت على التّخلي عن مهنتها بسبب التّهديدات المستمرة التّي كانت تتلقاها من قبل الإرهابيين خلال العشرية السّوداء القاتمة التّي مرت بها الجزائر ― وبين رجل أعمال لبناني “طلال” عاش في البرازيل وهو ثريّ في العقد الخمسين ومتزوّج. وتضعنا الكاتبة في أجواء خاصة تجعلنا نكتشف كيف يحاول ذاك الرّجل الثّري بشتى ما أوتي من الوسائل مادية كانت أو غيرها جلب انتباه بطلتنا المغنية واستدراجها نحوه لاستحواذ قلبها، لكن هل لسلطة المال أمان عاطفي؟ «سلطة المال، كما سلطة الحكم، لا تعرف الأمان العاطفيّ. يحتاج صاحبها إلى أن يفلس ليختبر قلوب من حوله، أن تنقلب عليه الأيام، ليستقيم حكمه على النّاس، لذا لن يعرف يومًا، إن كانت قد أحبّته حقًّا لنفسه».
لكن هل تكون بطلتنا بهذه السّذاجة أمام أول باقة أزهار من الزّنبق الأسود يرسلها إليها مجهول تصحبها بطاقة صغيرة خطت عليها هذه العبارات: “الأسود يليقُ بك” عقب اختتام أيّ مهرجان تقوم به؟ لكن هيهات! فـ”الحبّ لا يعلن عن نفسه، لكن تشي به موسيقاه، شيء شبيه بالضّربات الأولى في السمفونية الخامسة لموزار».
ويبدو أنّ هذا الرّجل الثّري الذّي أغرم بها لحدّ لا يُمكن وصفه لا يودّ أن يعزف عنها دون بلوغ مراده فـ«لفرط انخطافه بها، ما سمع نبضات قلبه الثّلاث التّي تسبق رفع السّتار عن مسرح الحبّ، معلنة دخول تلك الغريبة إلى حياته». فبالنّسبة له هذه الشّابة المغنية «لم تكن نجمة، كانت كائنًا ضوئيًا، ليست في حاجة إلى التّبرج كي تكون أنثى، يكفي أن تتكلّم». إنّها «امرأة تضعك بين خيار، أن تكون بستانيًا، أو سارق ورود، لا تدري أترعاها كنبتة نادرة، أم تسطو على جمالها قبل أن يسبقك إليه غيرك؟ (…) تتفتّح حينًا كوردة مائية، وقبل أن تمدّ يدك لقطاف سرّها، تخفي بنصف ضحكة ارتباكها، وهي تردّ على سؤال، وتعاود الانغلاق، فيباشر حينها رجاله نوبة حراستهم، وتغدو امرأة في كلّ إغرائها، امرأة لا تهاب الموت، لكنّها تخاف الحياة في أضوائها الكاشفة».
وفي كلّ مرة وكما عودتنا “أحلام مستغانمي” في كتاباتها السّالفة، وعبر شريط رواية حبّ، تجعلنا نقتفي آثاره رويدًا رويدًا، لا تستثني في الحديث عن بعض ميزات المجتمع الجزائري أو مستجدات السّياسة الجزائرية سواءً تعلّق الأمر بموضوع “الحراقة”: «ليس كلّ من أبحر نجا، لهول مصابهم نسي النّاس النّزعات الإجرامية للبحر، وصدّقوا أنّه رفيق درب، سيأخذ بأيديهم إلى الضّفة الأخرى، فألقوا بأنفسهم إليه. لكن ليس للبحر يدّ ليمدّها لمن جاؤوا على قوارب الموت، ولم يعرف عنه يومًا مصادقة المفلسين (…) لترف الموت غدا له صرعاته، وموضته، وتشكيلته الجديدة كلّ موسم. وهكذا، قبل “الموت حرقًا”، وصلت موضة “الموت غرقًا” إلى الجزائر (…) أمّا الذّين يعودون أحياء، فسيواصلون كابوسهم في السّجن».
أو العفو عن “الإرهابيين” بناءً على ميثاق السّلم والمصالحة الوطنية: «الدّولة التّي تدلّل الإرهابي لأنّه عاد بعد ضلالة، تُجرّم من هو جاهز للانتحار، لأنّها وحدها تملك حقّ قتله بالتّقسيط».
أو من انقادوا كراهيةً وتحت وطأة تهديدات إلى صفوف القتلة الإرهابيين كحالة أخيها الذّي أصبح يتذمّر بل يتقيأ من الكلمات في حدّ ذاتها: «حتّى الكلمات تتطلّب منه إعادة نظر: “الوطن”، “الشّهيد”، “القتيل”، “الضّحية”، “الجيش”، “الحقيقة”، “الإرهاب”، “الإسلام”، “الجهاد”، “الثّورة”، “المؤامرة”، “الكفار”: أتعبته اللّغة، أثقلته، يريد هواءً نظيفًا لا لغة فيه، لا فُصحى ولا فصاحة ولا مزايدات. كلمات عادية، لا تنتهي بفتحة أو ضمّة أو كسرة… بل بسكون. يريد الصّمت».
وشباب حائر ضائع بين فئة الإرهابيين التّي زرعت الرّهب وأدمت القلوب وفئة دعاة الوطنية التّي خرّبت البلاد وسطت على خيراتها: «الخيار إذًا بين قتلة يزايدون عليك في الدّين، وبذريعته يجرّدونك من حريّتك… وآخرين مزايدين عليك في الوطنيّة، يهبّون لنجدتك، فيحمونك مقابل نهب خزينتك».
نعم… الرّواية يعمّها الأسود. إنّه الحداد، أكان الحداد في الذّي لبسه الجزائريون خلال العشرية السوداء الدّامية، إلاّ أنّه لا يكمن فقط في لونه: «الحداد ليس في ما نرتديه بل في ما نراه، إنّه يكمن في نظرتنا للأشياء، بإمكان عيون قلبنا أن تكون في حداد… ولا أحد يدري بذلك». أو في هذه العلاقة صعبة المنال أو الدّوام (؟) بين “هالة” و”طلال”، فـ«كما يأكل القطّ صغاره، وتأكل الثّورة أبناءها، يأكل الحبّ عشّاقه». بل كيف يمكن لـ”هالة” أن تقبل بعلاقة غرامية مع رجل متزوّج ليس بنيّته ترك زوجته ولا التّخلي عنها؟ أبإمكانها أن ترضى بمنصب “العاشقة” الذّي يهبه لها؟ وإن حدث ذلك يكون طعنًا لأنوثتها! أم أنّها تلقي على وجهه كلّ الورود والأزهار التّي أرسلها إليها وتقيم الحداد على هذه العلاقة (المشبوهة)؟
لكن في هذه الحالة، إلى متّى يستمر حدادها أفلا تكون الحياة أجمل من إعلان الحرب عليها بل الحرب على أعدائها؟
“الأسود يليق بك” هي رواية رقصة «ترفض عمر الذّاكرة».