فرنسا تُغضب تركيا: ملف إبادة الارمن يغلق التعاون في سوريا
باريس ــ بسّام الطيارة
ما أن صوت البرلمان الفرنسي في قراءته الأولى على قانون تجريم انكار الابادة الجماعية للأرمن حتى تجاوزت الأحداث موضوع القانون ومسألة إمكانية «كتابة التاريخ بسن قوانين»، لتغوص في لب العلاقات الفرنسية التركية وتذهب أبعد لتعيد إلى الذاكرة رفض باريس انتماء تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ولتضع على بساط البحث مجمل العلاقات بين البلدين، وهما بلدان حليفان في الحلف الأطلسي، وكل ذلك في ظل سؤال يتردد الجميع بطرحه: «والآن ماذا يمكن أن يحصل في الملف السوري؟»، إذ إن باريس وأنقرة تحملان لواء إسقاط نظام بشار الأسد، وتدرك باريس بالطبع صعوبة «التحرك على الأرض» وزيادة الضغوط وإيجاد مناطق عازلة ودعم المنشقين وفتح ممرات إنسانية وما إلى ذلك من دون تركيا. كل هذه المسائل دارت في أذهان النواب وهم يصوتون، فيما تناهت إلى مسامعهم هتافات بضعة آلاف من مؤيدي تركيا تجمعوا خارج البرلمان ينددون بالقانون.
رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان لم يكتف بالتنديد، إذ ما أن أعلنت نتيجة التصويت بأكثرية واسعة للقانون حتى خرج (رغم الوعكة الصحية التي ألمت به) ليعلن في مؤتمر صحافي أن تركيا قررت الغاء جميع الاجتماعات السياسية والاقتصادية والعسكرية مع فرنسا، ووقف الاتصالات الرسمية وتجميد الاتفاقات العسكرية، كما تم استدعاء السفير التركي في باريس، وأن تركيا بصدد «إعادة النظر بعلاقاتها مع فرنسا».
في التفاصيل، يقول دبلوماسي تركي «سوف تقرر تركيا الرد على طلبات التعاون العسكري حسب كل حالة»، إلا أنه يذكر بأن أردوغان ألغى كل زيارات البحرية الفرنسية المبرمجة للرسو في مرافئ تركيا. وحسب رئيس الوزراء فإن هذه الإجراءات لا تزال في بدايتها وسوف تتبعها «بالتدرج» إجراءات أخرى.
ولكن كيف وصلت الأمور إلى هذا المنحدر وبهذه السرعة؟ صحيفة « ليبراسيون» اليسارية المعارضة تجيب من دون تردد: «الانتخابات الرئاسية والنيابية المقبلة». وتشير إلى الـ ٥٠٠ ألف ناخب من أصول أرمنية. وبالفعل فقد انبرى يدافع عن القانون نواب من الأكثرية والمعارضة، الذين يمثلون دوائر فيها أصوات أرمنية. فقط سمح لنائب واحد، هو ميشال دييفنباشي (Michel Diefenbacher) رئيس لجنة الصداقة الفرنسية التركية، بالحديث والدعوة للتوصيت ضد هذا القانون، محذراً من «النفخ في نار المنطقة نظراً لحساسيتها». وتساءل “ماذا سوف نقول إذا جاء من يذكرنا بمجازر فانديه» (Vendée)، وهي منطقة في بريتاني غرب فرنسا رفضت الخضوع للثورة الفرنسية وثارت على نظام الجمهورية، ويقال إنه بعد إخماد الثورة تم «لتخلص من ٢٥٠ ألف إمرأة ورجل برميهم في البحر «لنزع بذرة الفتنة»، حسب ما يقول المؤرخون.
نائب معارض آخر جاك ميار (Jacques Myard) صوت ضد القانون وندد به «أولا من حيث المبدأ» لأنه «قانون يكتب ذاكرة التاريخ». ويستطرد «نعم لقد كانت مجزرة، ولكن أن نقول لفلان أو علتان عليك أن تفكر هكذا وإلا أنت مخالف للقانون، فهذا شي غير مقبول لأن التاريخ يصبح إيديولوجية». ورداً على الذين يقولون إن القانون يستهدف «كل المجازر»، يقول «نعم في رواندا حصلت مجزرة، ولكني أعرف نساء يقولون لا لم تكن مجزرة، ماذا أفعل، أضعهم في السجن؟»، وبعد أن أعلن أنه سيصوت ضد القانون متسائلاً بتهكم: «لماذا لا يخرجون مجزرة ١٥١٥»، في إشارة إلى ليلة «السكاكين الطويلة» التي كانت بداية الحرب الدينية حين قضى الكاثوليك على ما يزيد من ٤٠٠ ألف بروتستانتي.
إلى جانب صفحات التاريخ، يقلب هذا القانون صفحات التحالفات، إذ إن فرنسا بإقراره «تذهب أبعد» من حلفائها الأوروبيين الذين يعترفون بمجزرة الأرمن ولكن لم يقوننوا نفيها، ناهيك عن أن بريطانيا، مثلها مثل إسرائيل، «لا تعترف بمجزرة الأرمن»، فبالنسبة لهذين البلدين لا توجد إلا مجزرة واحدة هي «المحرقة». وسوف يلوم حلفاء باريس في الأطلسي الرئيس الفرنسي لأنه أغضب تركيا لأسباب انتخابية في وقت يحتاج الأطلسي بقوة لتركيا في عدة ملفات، وفي مقدمتها الملفين السوري والإيراني المتشابكين. أضف إلى أن الإدارة الأميركية تسعى جاهدة لمراضاة أنقرة، ليس فقط بسبب هذين الملفين بل لردم الهوة التي تزداد اتساعاً بين أنقرة وتل أبيب بعد محاولة تركيا فك الحصار عن غزة. كما أن الدبلوماسيين الفرنسيين، وإن هم يرفضون التعليق، إلا أن خبيراً يعمل على ملفات المنطقة قال شرط كتم هويته «لقد هدم ساركوزي بضربة واحدة ما بناه خلال أربع سنوات»، في إشارة إلى استيعاب باريس لردة فعل أنقرة بعد رفض قبولها في الاتحاد الأوروبي، وذلك عبر إعطائها دوراً متزايداً في شؤون الشرق الأوسط والبلاد العربية لدرجة تحدث البعض عن «حلف الدوحة أنقرة باريس»، الذي أراد أولاً إحياء المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل، وحتى بعد توقفها ظل أردوغان في «وضع تحالفي مع ساركوزي» في كافة الملفات الشرق أوسطية يقدم له «ضمانة إسلامية بينما قطر تقدم الضمانة العربية».
ويرى الخبير أن اردوغان عندما يقول إن «القرار سيفتح جروحاً مع فرنسا يصعب أن تندمل» يريد إعادة عقارب الساعة إلى مسألة قبول تركيا في الاتحاد الإوروبي، الذي قد يكون الثمن لإعادة فتح الخطوط مع فرنسا التي يمكن أن تنصاع بسبب الأوراق الكثيرة التي تمسك بها أنقرة في المرحلة الحالية والضغوط التي لا بد وأن يمارسها حلفاؤها في الحلف الأطلسي لإرضاء تركيا، علماً أن واشنطن تضغط بقوة لقبول تركيا في الاتحاد.
أعتبر أوردوغان «أن هذا القانون سن على أسس العنصرية والتمييز»¡ وهي نفس الاعتبارات التي رآها الأتراك عندما رفض ملف قبولهم في الاتحاد الأوروبي من قبل ألمانيا، حيث توجد جالية تركية كبيرة. قد يكون رئيس الوزراء التركي يريد عبر رمي هذه الاعتبارات، المحملة بعبارات وازنة مثل عنصرية وتمييز، أن يقول لساركوزي إذا «لم تكن عنصريا ولا تحمل تميزاً فارفع الفيتو عن قبول تركيا في الاتحاد». هذا هو الثمن المطلوب تركيا اليوم إذا أرادت فرنسا والحلف الأطلسي تكملة المشوار السوري مع الحليف التركي بانتظار المشوار الإيراني.