محاسن “داعش”
رغم التهويل الإعلامي الكبير حول قوة وخطر تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” المختصر بـ”داعش” بعد سيطرته على الموصل، فإن محاسنَ عديدة ظهرت من خلال هذه “البروباغندا” تنفع العديد من الأطراف ليس فقط على الساحة العراقية، بل في المنطقة ككل.
أولاً من هو “داعش” ومن يدعمه بعدما تبرأ منه “تنظيم القاعدة” العالمي؟، ومن يخدم؟ هل هو حقاً يريد دولة العدالة الموعودة في القرآن؟ أم أنه مجرد ردة فعل على استئثار تيارات سياسية معينة من لون معين بالسلطة؟ أم هو النسخة الجديدة من الخوارج الذين خرجوا عن طاعة الإمام علي بن ابي طالب، في فجر التاريخ الإسلامي ووقفوا أيضاً ضد خصمه معاوية بن أبي سفيان، فحملوا السيف ضد المسلمين كافة وضد غير المسلمين؟.
بقطع النظر عن البنية العقائدية لهذا التنظيم أو مشروعه السياسي، فإن ما حصل في الموصل يدل على حجم شعور فئة من العراقيين، السنة خصوصاً، بما كان يشعر به العديد من الفئات في زمن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. هذا الشعور ولّد ردة فعل عدائية ضد النظام العراقي بشخص رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي؛ العميل المزدوج الذي يخدم مصالح أميركا وايران أكثر مما يخدم شعبه، وهذا باعتراف تيارات وشخصيات شيعية وليس فقط سنيّة؛ مثل رئيس الوزراء الأسبق اياد علاوي وزعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر.
في نفس المستوى الذي شعرت فيه شرائح كبيرة من السنة في العراق أن “داعش” سينتقم لها ولمحاولات تهميشها تارة بذريعة “اجتثاث البعث” وتارة أخرى بذريعة “تأمين حاضنة للإرهابيين”، انخرطت معه قسراً، وقاتلت الى جانب عناصره من دون أن تخضع لأي توعية آيديولوجية أو انخراط بالمعنى التنظيمي الحركي في صفوفه.
هي فقط استنجدت به كما استنجد باقي العراقيين بالشيطان الأميركي للتخلص من صدام قبل 11 سنة. فالقوة التي وصلت الى مشارف بغداد ليست “داعشية” 100 في المئة بل هي ردة فعل وثورة غضب ضد حكومة فاشلة وجائرة، لكن صياغة هذه الثورة كانت خاطئة وهي على طريقة الانتقال “من تحت الدلفة لتحت المزراب” كما يقول المثل اللبناني.
وإذا كان لهذه التطورات الدرامية من محاسن على منوال: “مصائب قوم عند قوم فوائد”، فإن المحاسن بدأت تظهر من خلال تقارب إيراني أميركي أكبر جعل البلدين العدوين تاريخياً وفي غمرة مفاوضات متواصلة حول برنامج ايران النووي، متقاربين الى حد الالتحام تحت راية “مكافحة الارهاب”. ولعل سيطرة “داعش” على الموصل قد تسرّع في توقيع اتفاق نهائي بين طهران والغرب ينهي الأزمة النووية ويحل ملفات أخرى عالقة بينهما. فالإيرانيون الذين يوحون بأنهم باتوا في خطر لوجود تنظيم إرهابي “تكفيري” بالقرب من حدودهم، سيحظون من خلال هذه التطورات بـ”كرت بلانج” وبمباركة غربية للتدخل أكثر في شؤون بلاد الرافدين، مباشرة ومن خلال الحرس الثوري (المتواجد أصلاً في البلاد منذ الاحتلال الأميركي في العام 2003 ).
أما على المستوى الكردي فقد أتت غزوة التنظيم الإرهابي ثمارها في كركوك، التي دخلها البيشمركة “فاتحين” بعد سنوات من النزاع مع سلطات بغداد حول ضمها الى كردستان العراق. فحظي الأكراد من خلال “داعش” بمنطقة عائمة على النفط وذات موقع استراتيجي وأصبحت في يدهم بواسطة “داعش” التي قدمتها لهم على طبق من فضّة.
النظام السوري قطف اولى الثمار في مدينة كسب بعد غزوة “داعش”، حيث خفف توجه مئات العناصر “الجهادية”؛ حتى من غير “داعش” الى العراق، من الضغط على قوات الاسد في أكثر من منطقة. وسقطت المدينة الواقعة على حدود تركيا بيد الجيش السوري نتيجة هذه المعطيات.
أما الجانب التركي فقد أصبح له جار يتماهى الى حد كبير مع سياساته في العداء للنظام في بغداد، وفي دعم المعارضة السورية المسلحة، وإن كانت أنقرة لا تستطيع التحكم بهذا التنظيم، حيث كان أعضاء السلك الديبلوماسي في الموصل أول الضحايا لهذه الغزوة؛ في حال لم تكن هذه العملية في الأصل من ضمن السيناريو طبعاً. بيد أن لتركيا منافع عديدة سياسية وأمنية من خلال تواجد هذا التنظيم على حدودها الجنوبية.
السعودية بدورها تستطيع تصريف العديد من الشباب “الجهادي” الى العراق والذين يشكلون خطراً على أمنها في المستقبل، وبالتالي تستخدم هذه الورقة ضد خصمها اللدود في بغداد وتحقق الكثير من تفاصيل جدول عملها الأمني ضمن لعبتها الدموية مع إيران والنظام السوري.
أما العراقيون الآخرون الذين أبدوا غيرتهم على الوطن وعلى المقابر والأضرحة في شكل مهووس لم نشهده حتى حين كانت جحافل الغزاة الأميركيين والبريطانيين تقتحم عاصمة الرشيد وتدخل الى الصحن الحيدري في النجف، فقد أعطاهم “داعش” ذريعة لتشكيل خلايا مسلحة مذهبية تؤسس لحرب طائفية أهلية في العراق لا هوادة فيها.
ربما كان الأردن أكثر الأطراف خوفاً على مصيره في ظل هذه التطورات الدرامية، لكن ما تبقى من الشعب العراقي المسكين الذي ينتمي الى الفرات ودجلة وبغداد ونخيلها، ما تبقى الشعب الذي لا ينقاد وراء غرائز مذهبية أو طائفية أو يسعى الى تحقيق مصالح لدول أخرى. هو الضحية التي ستدفع الثمن الأكبر على غرار كل الحروب التي تُخاض في العالم.
لكن ومن دون أي شك تبقى الولايات المتحدة هي الرابح الأكبر مما يجري في العراق، إذ تحول النظام السياسي الذي أرسته بعد غزوها للبلد، والقائم على المحاصصة الطائفية، الى حرب مذهبية قذرة تلعب فيها دولة قطر “العظمى” دور “المايسترو” لتسعيرها نيابةً عن “العم سام”.