مسار الجهادية الإسلامية معاكس لمسار القومية العربية
بسّام الطيارة
يسأل العرب أنفسهم: ماذا أصابنا؟ كيف أمكن بعد خمسة عقود ونيف من التحرر أن نعود ونسقط في حفرة الانقسام والتقسيم ونركب موجة التخلف والعودة إلى الوراء؟
عندما تحرر العرب من ركب الاستعمار انطلق طموحهم نحو مثال فلسفي عقائدي تحت شعار «القومية العربية» تيمناً بحركات التحديث الأوروبية التي بنت انطلاقتها على مبادئ قومية مثل ألمانيا (بسمارك) وإيطاليا (غاريبالدي). وبالفعل واكبت حركات التحرر العربية حركات التحرر العالمية التي قادت دولاً مثل الهند وأندونيسيا وكذلك الصين الشعبية لتجاوز حقبات التبعية والدخول في مراحل التحديث للدولة ونهضة مجتمعها. ولكن في حين تابعت تلك الدول مسيرتها هوت الدول العربية على قارعة مسار التحديث.
الأسباب كثيرة ومتعددة ولا تتضمن أي «مؤامرة». إنها أسباب موضوعية لا مجال للخوض في غمارها في مقالة بسيطة، إلا أن أحد عناوين هذه الأسباب بارز ويفرض نفسه بقوة خصوصاً بعد أحداث السنوات الثلاث الأخيرة: إنها القومية العربية.
ما ان وطأت الدول العربية واحة الاستقلال حتى بدأت حرب شعواء على القومية العربية وكأنها وباء يجب استئصاله أياً كانت النتائج، مع تجاهل تام لما يمكن أن تقود له وحدة هذه الأقطار من المحيط إلى الخليج من قوة بمعنى حماية مكتسبات الاستقلال السياسي باستقلال اقتصادي وحجز مكان لشعوبها في مسيرة الحداثة… تماماً كما فعلت أمم أخرى.
من نافل القول إن اجتياز عتبة الاستقلال الذي «صادف» تزامنه مع انشاء الكيان الإسرائيلي كان له التأثير الأكبر في انطلاق حملة قصم ظهر القومية العربية. فبالطبع إن قومية عربية تتجاوز مسألة أديان الشعوب التي تنطوي تحت رايتها هو بحد ذاته تحد كبير ومميت لدولة إسرائيل فرضها الغرب على أسس دينية. والقومية العربية كان يمكنها استيعاب «اليهود العرب» ضمن مشروع حداثي لا يميز بين مسلم ومسيحي ويهودي. هو ذا العود الأول للقومية العربية. يذكرنا هذا بحرب ٦٧.
قومية عربية توحد تلك الأقطار كان وما يزال لها أعداء يحملون بين أسنانهم سكين وأد تلك الفكرة أبرزهم القوى الكبرى التي لا يمكن أن ترى أو تتصور أو تقبل وجود تكتل يقبع على ثروات ضخمة تحتاج لها تلك القوى لمتابعة مسيرة تكديس الثروات المنهوبة من الضعفاء وفي مقدمتها النفط. لذا كانت اسرائيل، ولذا نشأت تحالفات مع «الحكام». تحالفات لا يمكن وصفها إلا بأنها تحالفات جرت «خلافاً للطبيعة». فالقيمون على أنظمة تلك الدول كانوا أيضاً قيمين على ثرواتها، ونشوء دولة حديثة اتحادية أو كونفدرالية كان كفيلاً بسحب بساط النهب من بين أيديهم. يذكرنا هذا بحرب اليمن.
ولكن وجد أيضاً متربصون في داخل الأقطار العربية: اليسار العالمي وكذلك السلفيون.
اليسار العربي كان حليفاً لمحاربي القومية العربية عندما كان تابعاً للاتحاد السوفياتي ويأتمر بأمرته. كان عميلاً (بكل معنى الكلمة رغم وردية خطابه ورسمه لحلم افتراضي على أرض الواقع) فالاتحاد السوفياتي كان قوى كبرى ترى وتنظر إلى الخارج من منظور مصالح قوة كبرى ولو غلفت خطابها بإيديولوجية ماركسية.
إن عودة عديدين من أركان اليسار العربي إلى أرض الواقعية وخروجهم من وهج أحلامهم الشيوعية، لم يدفعهم نحو الحداثة التي يمكن أن تقود إليها القومية العربية، بل سقطوا إما في حفرة السلفية الجاهلية أو في مستنقعات «العمى الغربي». وحمل بعضهم شعارات إسرائيلية ألبسها ثوب الحداثة الغربية، وبات الهدف واحد «تفتيت الأمة العربية» بحجة… الحداثة والحريات.
أما الذين تحولوا نحو السلفية فهم حاربوا علنا وجهرا الغرب وبحجة هذا النضال العقيم حاربوا الحداثة ورأوا في القومية العربية عدواً لـ«الإسلام» فهي تدعو للحداثة وبالتالي تقطع عليهم طريق الهيمنة الدينية. من هنا توافقت أهدافهم المعلنة مع أهداف اسرائيل غير المعلنة.
عدو داخلي خبيث تربص أيضاً بالقومية العربية وساهم مساهمة كبرى وبشكل ملتبس في قطع طريقها إلى واقع تنفيذ وحدة ترفع من شأن شعوبها: إنها الديكتاتوريات العربية التي لبست رداء القومية العربية وحملت قميص الصبر وقطعتها إرباً تلوح بها لشعوبها. قطعة حملت اسم فلسطين وأخرى حملت اسم التحرر وأخرى الاشتراكية وهلم جرا؛ وكلها هدفت إلى كتم أفواه شعوبها وإبعادهم عن القومية العربية بتأجيج «نزعة حب الأقطار». يذكرنا هذا بالسادات وفرعنة المصريين ويذكرنا بحزب البعث الذي حمل أحلام قطرين وقبرهما في مقبرة مصالح نخبة/عصبة حاكمة وجعل من بلدين كتلتين متنافرتين تنافر خطين متوازيين لا يلتقيان. هكذا تشكلت ديكتاتوريات عربية حكمت الأقطار وسحقت مسارالقومية العربية؛ أي مسار الحداثة.
ما نراه اليوم هو خلاصة هذه الديناميكية المخربة للحداثة:
– دول تحكمها ديكتاتوريات ذات مصالح خاصة يصفق لها «مواطنوها» بنرجسية قطرية تشابه نرجسية مؤيدي فريق كرة قدم.
– سلفية قائمة على حدي الإسلام السياسي السني والشيعي في عودة إلى الوراء تقاس بقرون عديدة.
لقد تحول المفكرون والناشطون إلى أبواق يحملون ألوان منظمات إنسانية غربية أهدافها قائمة على مصالح وعادات وظروف مخالفة جدا لمصالح «العرب» وإن ألبست هذه رداء … حقوق الإنسان.
هل أسدل الستار على آمال شعوبنا؟ أم أن هدف الوحدة بمفهومها الحديث يمكن أن يأخذ طرقا أخرى وصولاً لقطع دابر السلفية والديكتاتورية وبناء دول عصرية قوية قائمة على حقوق الشعوب بتقرير مصيرها والاستفادة من خيرات أراضيها ووقف النهب والسرقة.
يمكن للغرب إن كان صادقاً، أن يساعد على بناء هذا الكتلة العربية، عليه أن يسرع في هذا الدعم قبل أن ينقلب سحر ما ساهم بنشوئه عليه.