ألم الكاحل (قصة)
عصام حمد
عثرت السيِّدةُ إنعامُ بحصاةٍ في مشيتها إلى جانب الطريق. فالتوى كاحلُ رِجلها اليُسرى. تمالكت توازُنَها فلم تقعْ. ولكنَّ الألمَ الحادَّ ارتسمَ بتقبُّض قسمات وجهها الجميلِ وهي تنحني لتُمسِّدَ بأصابع يدها عضلاتِ كاحلها المُصاب.
ولمَّا خفَّتْ حِدَّةُ الألم واصلت السيِّدةُ سيرَها بعَرَجٍ خفيفٍ، وإن لم يُزايلْ وجهَها تعبيرُ الألم والامتعاض. ثم راحت تلومُ نفسَها على تسرُّعها.. وإذا بها تسمعُ مَن يقول لها لاهثاً:
– حصل لكِ شيء؟.. لويتِ كاحلَكِ؟
التفتت إنعامُ وراءها في دهشة، بل بشيءٍ من الخوف في هذه الناحيةِ غير المأهولة. فرأتْ شابَّاً زَرِيَّ المنظر يجري نحوَها، لا تعرفُ من أينَ جاء. خاطبتْهُ بنبرةٍ أرادتْ لها أن تكونَ خشِنةً، ولكنَّها خرجتْ من حَلقها الجافِّ كالرجاء والاستعطاف:
– لا شيء.. شكراً!
وتسارعَتْ خطواتُها المُضطربة على كعب إسكربينتها العالي. فما راعَها إلا أن تشعُرَ بالغريب يخفُّ في أعقابها!
اتَّجهتْ برأسها إلى الخلف من دونَ أن تكُفَّ عن حَثِّ الخُطى. وصاحَتْ به بفظاظةٍ؛ وإن شابَ صوتَها بعضُ التهدُّج:
– ماذا تُريد.. لماذا تتبعُني؟
رفع الشابُّ عينَيه إلى عينَيها إذْ فُوجئ بالتفاتها، ثم قال كأنَّهُ يستعطي:
– أدلُكُ لكِ كاحلَكِ؟
ولعلَّها رأت في احمرار عينَيه، وارتخاء فكِّهِ، وانفراج شفتَيه، وفي تقارُبه السَّريعِ منها- قبل أيِّ شيءٍ آخَر- ما بَثَّ الذُّعرَ في قلبها، فارتعشت له أطرافُها وهي تتلفَّتُ مُتلهِّفةً على عابرٍ تستنجدُ به. لكنَّ الطريقَ مُقفرٌ في هذه الساعة من بعد الظهر. أدركت السيِّدةُ إنعامُ- غيرَ مُصدِّقةٍ- أنَّها تتعرَّضُ لمُحاولة اعتداء.. اغتصاب! وتمثَّلتْ في خاطرها صُورٌ لها مُمزَّقةَ الفُستان، مكشُوفةَ الثياب التحتيَّة، مُنطرحةً على أرضٍ قذرة، تُقاومُ تحتَ ثقلٍ ضاغطٍ، وتمتدُّ إلى جسدها أيدٍ صلبةٌ لا تستطيعُ لها دفعاً.. شعرتْ برِجلَيها تتلاشيانِ من تحتها.. وخاطبَها الشابُّ بكلامٍ لم تفهمْهُ. ثم إذا به يُمسكُ بذراعها.. أطلقت صرخةَ فزعٍ. واستدارتْ وهي تنتزع يدَها من يدهِ. اقتنعت أنَّها ليست بقادرةٍ على الهرب، وأنَّهُ لا بُدَّ من المُواجهة. ثم استطاعت أن تصيحَ بالشابِّ:
– اترُكْ يدي!
بدا لها الغريبُ دميمَ الخِلقةِ، كريهاً، مِسْخاً خارجاً من كابوس. وعادت تصيحُ بصوتٍ أعلى اصطنعت له غِلظةً:
– قلتُ لك اترُكْ يدي!
وكان الشابُّ قد ترك يدَها، ووقف إزاءها يبتسمُ إليها ابتسامةً بلهاء. فاستدعت إنعامُ شيئاً من شجاعةٍ مُفتقَدة، وسألته في عُبُوس:
– ماذا تُريد؟
– أُريد..
غلبه الارتباكُ. فاستزادت هي من الشجاعة، وصاحت:
– قُل ماذا تريد!
– كنتُ أريد أن.. أساعدَكِ.. أن أدلكَ لكِ كاحلَكِ.. لِمَ الغضب؟
كانت لا تزالُ ترتجفُ من الخوف. إلا أنَّها إزاء تردُّدهِ استطاعت أن تُفكِّر. فرأت أنَّ عليها أن تُحاذرَ من إبداء أيَّة إشارةٍ إلى خوفها، وأن تتظاهر بأنَّ ارتعاشَها إنَّما هو عن غضبٍ لا تستطيعُ له ضبطاً:
– كيف ظننتَ أنَّني أسمحُ لواحدٍ مثلك بتدليكِ كاحلي؟
سرعانَ ما ندِمَت على ما نطقَت به. إذ ساورتها خشيةٌ من أن تُثيرَ غضبَ هذا الأزعر الذي لا تعرفُ شيئاً من طباعه..
– أردتُ المُساعدة..
اطمأنَّت عندما رأتهُ يتراجع، فيُديرُ ظهرَه ويمضي مُبتعداً عنها.
* * *
في عصر ذلك اليوم كانت السيِّدة إنعام جالسةً مع زوجها على الشُّرفة، مادَّةً أمامها- على طاولةٍ صغيرةٍ- رِجلَها اليُسرى ملفُوفةً عند الكاحل بضمادٍ أبيض. وكان زوجُها يقول لها بإشفاقٍ من داخِلِ بيجامته الباهتةِ الألوان:
– كيف تشعرين.. لعلَّكِ لا تتألَّمين. لطالما نصحتُكِ يا حبيبتي بألا تتعجَّلي خطواتك.
فأجابتْهُ بحدَّةٍ:
– لا شأنَ للعَجَلة.. كلُّ ما في الأمر أنَّني عثرتُ بحصاة.. ألا تدعُ فرصةً إلا نصحتَني بالتمهُّل؟
* * *
لم تبرح تلك الحادثةُ ذاكرةَ إنعام. ولا زالت تستعيدُها كلَّما خَلَت إلى نفسها. فتنكمشُ هلعاً مِمَّا كان سيفعلُ بها ذاك المُتوحِّشُ في تلك الناحية النائية. ثم وجدت نفسَها تتساءلُ بفضول: “وماذا كان سيفعلً بي.. بجسدي الذي لا بُدَّ أنَّه ظهر لعينَيه الجائعتَين شهيَّاً”! وضحكت في عصبيَّةٍ وسُرور. ثم شعرت بشيءٍ كأنَّهُ الندمُ على تسرُّعها في زَجْره: “كان يتمنَّى لو سمحتُ له بتدليك كاحلي.. هل تظُنِّين يا إنعامُ أنَّه كان سيكتفي بكاحلك؟”. واجتاحت جسدَها قُشَعريرةٌ لذيذة. وإذا صورةُ زوجِها تتطفَّلُ على مُخيِّلتها: عيناهُ الرقيقتان وهو يقول لها “سلامتك”.. بيدَ أنَّ إنعامَ سرعان ما صَرَفت صورتَه غير مُكترثةٍ لشُعورٍ طفيفٍ بالذنب. وخطر لها- كما تقول لنفسها دائماً- أن لا شأنَ لزوجها بحياتها الخياليَّة! وعادت تستعيدُ مشهدَ الشابِّ وهو ينحني على رِجلها، وصوتَه يتوسَّل: أدلك لكِ كاحلكِ.. كيف كانت يداهُ يا تُرى؟ لم ألمحهما في خوفي وجَزَعي. لا بُدَّ أن تكونا قويَّتين، خشنتَين، خبيرتين بتدليك أجساد النساء! وأغمضت عينَيها. وأسندت ظهرَها إلى الكنبة. ومدَّدت رِجلَيها وهي تضُمُّهما بشِدَّةٍ من تحت ثوب البيت الفضفاض.. وأمسكتْ يدٌ قاسيةٌ بقدمها اليُسرى عند الكاحل.. آه! ويدٌ ثانيةٌ راحت تنزعُ الضمادَ بحزم. سَرَتْ من مَسِّ اليدَين في جسدها رِعدةُ خوف. غير أنَّ المرأةَ لم تفتحْ عينَيها لتنظر إلى الشابِّ الغريب. وواصلت يداهُ الضغطَ على موضع الألم من كاحلها.. أدلُكُ لكِ كاحلَكِ؟ آه! إنَّه يتعمَّدُ إيلامَها عقاباً لها على صدِّهِ. وإنعامُ اكتفَتْ بالتأوُّهِ خاضعةً لعقابهِ وهي تتذوَّقُ مهانةً لذيذةً.. لا بُدَّ أنَّه يبتسمُ في تَشَفٍّ.. وإذا بيدٍ تنحطُّ على رُكبتها. آخ! لكنَّها ليستْ يدَ الشابِّ! هي يدٌ صغيرةُ الكفِّ. يدُ ابن الجيران الشقيِّ بالحيِّ القديم. دفعَها عمداً فأوقعَها حتى جرحت رُكبتَها. قعدت في الأرض وهي تصيحُ من الألم رافعةً رُكبتَها الداميةَ لتنظر إليها من خلال الدموع. ابنُ الجيران يضحك. يقترب: أدلكها لكِ يا نعُّومة؟.. أوقعتَني.. سأُخبر بابا ليضربك. آخ! يدُ الصبيِّ تضغطُ على الجُرح. أنتَ تُوجعني. اتركني. الصبيُّ يقعُ بجسمهِ على الفتاة، فيطرحها بالأرض، ويتمدَّدُ فوقها، ويداهُ تتشبَّثانِ بخاصرتَيها وتشُدَّانِ عليهما بعُنف. ماذا تفعل يا رامي.. آخ! يهوي بفمهِ على فمها ليمنعَها من الصُّراخ.. م..م.. ولكنَّ الفتاةَ الصغيرةَ لم تعُدْ تريد أن تصرُخ..
وفتحت السيِّدةُ إنعامُ عينَيها. ونظرت إلى كاحلها الملفُوف بالضِّماد وهي تذكُرُ يدَي زوجِها الناعمتَين الحانيتَين إذ يُعالج قدمَها. فاحتدَّت عيناها سُخطاً عليه.