سوريا: الوجود المسيحي يفرمل الغرب
باريس – بسّام الطيارة
تجمع سوريا ولبنان روابط كثيرة ووجوه التشابه متعددة، بعضها يلتقي في التاريخ المشترك من عصور الفينيقيين إلى الانتداب الفرنسي مروراً بالسيطرة العثمانية. وبعضها يتقاطع مع العلاقات العائلية والتيارات الفكرية أو السياسية، ومن ضمنها التحالفات التي تقوم وتنحل حسب مصالح الأفرقاء في البلدين التوأمين بفعل الجغرافيا رغم اختلاف الأحجام والمساحات. ولكن تغوص أوجه الشبه في التنوع الطائفي للسكان وإن اختلفت النسب.
حتى فترة قليلة ماضية كان الوهم المهيمن في لبنان هو «الخوف من أن تبتلع سوريا المسلمة العربية لبنان الصغير»، وسند هذا الوهم من نادي فرنسا «الأم الحنون» ومن تصدى للوحدة الناصرية بين مصر والجار السوري والتحق بحلف بغداد. ولكن منذ فترة وجيزة تعود إلى عقد ونيف، بدأ الحديث عن «سوريا العلوية» وكانت هذه الصفة من ضمن وسائل الدفاع والهجوم على سوريا الرابضة على الأرض اللبنانية من قبل قسم من اللبنانيين الذين كانوا يريدون إخراجها وفك حالة «الاحتلال السوري». بالمقابل لم يكن يرى معارضو خروج سوريا قبل خروج الاحتلال الإسرائيلي إلا «سوريا المقاومة». ولما وسَّع الخصوم سوريا بيكار الوصف ليصل إلى حدود «إيران الشيعية» وسَّع حلفاء سوريا بيكار توصيفها ليصل إلى «سوريا الممانعة”.
كانت الصورة للمتابع البعيد عن الإحصاءات الدقيقة والمتابع للمناوشات التلفزيونية أن الصراع في لبنان يعكس صراعاً بين إيران وسوريا حيث تحالف الشيعة مع العلويين وبين السعودية ومصر القطبان السنيان، وما حزب الله إلا ممثل التحالف الأول بينما خصومهم السياسيين يمثلون التحالف الثاني. خط شيعي يخاصم خط سني أو العكس بالعكس.
المسيحي في لبنان (ولحسن الحظ) انقسم بين الفريقين. المسيحي في سوريا كان غائباً عن الوعي المتشاحن عبر الحدود. عبر التواريخ ٨ و١٤، دخلت بينهما السلفية لم تدعم هذا وذاك بل مهدت لقواعد لها في بلاد الأرز. جاء الربيع العربي وتحرك الشعب السوري. اشتدت الثورة وامتدت واستعر القمع وزاد عدد الضحايا والقتلى وطال الانقسام «الجيش العربي السوري» ليصبح جيشين، وبينهما أيضاً دخلت السلفية تدعم هذا حينا بانتظار قطف الثمرة.
لا يمكن الدفاع عن نظام يقمع شعبه بهذا الشكل، لا يمكن الدفاع عن نظام «شبه أبدي» استتبت له شؤون الحكم منذ ١٩٧٠، ونحن في القرن الواحد والعشرين في عصر أنترنيت والتواصل الرقمي، بينما النظام يعيش واقع التوريث، نظر إلى الثورات العربية ولم يبصر.
رغم هذا كان البعض يدافع عن هذا النظام. سقطت حجج العروبة والمقاومة والممانعة وقامت حجة «الدفاع عن الأقليات» وتصدرت مقولة «حماية مسيحي الشرق» حجج المدافعين. ها هو لبنان يكتشف في سوريا العربية المسلمة وجود مسيحيين، هاو هو البطريرك نفسه يجلس في عقر دار الأم الحنونة ليخطب في هذا السياق. ها هم السياسيون من غير خصوم سوريا يتنطحون للدفاع عن مسيحيي سوريا اليوم، يسقطون على سوريا «النموذج اللبناني الطائفي» وكأن مسيحيي سوريا لم يكونوا ساكنين في البلد تحت هذه الدكتاتورية وكأن هؤلاء نصارنة العرب لا ينزلون الشوارع للتنديد بالقمع والمطالبة بالتغيير، وكأنه لم يكن للمسيحي سجناء لدى النظام.
هذا هو النموذج الذي تبحث عنه السلفية وتترعرع في طياته. وبالفعل بانت السلفية ويوماً بعد يوم أكثر وجوداً على الأرض وأكثر تسلحاً وأكثر نشاطاً وأكثر قتالاً.
حتى أيام خلت كانت التحليلات والتعليقات ترى في انخراط السلفيين «تحرك هامشي» وفي موقع الإخوان المسلمين المتقدم «تحرك مُبَرَّر» مذكرين بذبحة حماة والتنكيل الذي أصاب «الإخوان» في الثمانينات وفي هذا ما يبرر حصتهم الدسمة في المجلس الوطني السوري. ظن الجميع أن «الغرب يتجاهل أو يجهل أمر السلفية»، ومثلما حصل في تونس ومصر وليبيا، مثلما قال بالحرف وزير خارجية فرنسا ألآن جوبيه في ١٦ نيسان من هذا العام في معهد العالم العربي “الغرب مستعد للتعايش مع الإسلاميين”.
لذا لم يكن يعير العديدون الاهتمام للمشاهد التلفزيونية التي «تقول بالصورة» إن الإسلاميين يشكلون أكثرية المتواجدين على الأرض، إن كان من حيث نسبة ذوي اللحى أو من نسبة المحجبات وحتى في المقابلات مع الناشطين نسبة ذوي «الزبيبة» أو علامة السجود. إذا الغرب راضٍ والبرهان رضى يقارب الاعتراف يحوذه المجلس الوطني السوري رغم نسبة الإسلاميين المرتفعة والمهيمنة في داخله.
إلا أن الأمور بدأت تتغير بشكل غير ملحوظ في البداية وتصاعد التغيير رويداً رويداً ليصل إلى نقطة «إعادة نظر» بالحالة السورية. وقد بدأت التحقيقات تسلط الضوء على الإسلاميين وإمساكهم بالوضع على الأرض، وكانت «الغارديان» أول من تحدث علنا عن تسلح الإسلاميين في ١١ كانون الأول/ ديسمبر. في ١٤ من الشهر نفسه كتبت إيديث بوفيةن مبعوثة صحيفة الفيغارو الفرنسية إلى جبل الزاويةـ تروي دخولها عبر الحدود، مع «عادم قيقلي» أحد المقربين من عبدالكريم بلحاج الليبي الشهير، وروايته لها عن المساعدات التي يحملها مع مرافقين عبر الحدود التركية. كما روت لقاءها على الأرض مع «عبد المهدي حاراتي قائد المجموعة التي حررت طرابلس الغرب» والذي كان يعطي إرشادات وتعليمات لرجال جيش سوريا الحر. في ١٧ من الشهر نفسه ظهر ريبورتاج على قناة اسبانية (أ بي سي نيوز) يفيد تقريباً نفس المعلومات.
حتى أحاديث الزعماء والمسؤولين الغربيين تغيرت وتلونت بتعابير تنم عن فتور الاستراتيجية: فالرئيس أوباما قال أمام المالكي «إن بشار الأسد ضيع فرصة إصلاح حكومته» واستمع إلى رئيس الوزراء العراقي يقول له «ليس من حقنا مطالبة رئيس دولة بالتنحي». ألآن جوبيه قال في ١٧ الشهر إن «الأسد لا زال يتجاهل الفرصة الأخيرة»، وغيرهم من المسؤولين لونوا تصريحاتهم عن سوريا بغطاء من الفتور إن لم نقل التراجع. أوباما يتحدث عن إصلاح حكومة وجوبيه يتحدث عن فرصة أخيرة رغم أن الوصف قبل أشهر كان «فقدان الأسد للشرعية». التغيير حاصل والأيام سوف تبرزه.
سبب التغيير الطفيف هو «اكتشاف الغرب للوجود المسيحي» في سوريا.
سوريا ليست ليبيا وليست تونس ولا اليمن وحتى تختلف عن الحالة المصرية. سوريا أقرب إلى لبنان من حيث التركيبة. هيلاري كلينتون في لقاء مع وفد من المجلس الوطني السوري وحسب محضر اللقاء الذي نشرته الزميلة «السفير» تحدثت عن أربع نقاط لا غير، احتلت مسألة الأقليات ثلاث نقاط منها: نقول كلينتون «…بضرورة الانفتاح على كل أطراف المعارضة وعدم نسيان الأقليات…». يجيب برهان غليون بأن الأكراد ممثلون، فـ«توضح» له كلينتون بأن «الأقليات لا تقف عند القومية الكردية»، وعندما تتحدث بسمة قضماني «من إمرأة لإمرأة» عن معاناة المرأة السورية، تقحم كلينتون الأقليات مرة ثانية بإجابتها « رسالتنا لكم أيضاً هي حماية الأقليات والمجموعات العرقية والنساء».
لا يعني هذا أن نظام الأسد عاد مقبولاً من المجتمع الدولي، ولكن بات المطلوب تحاشي وضع ما-بعد-الثورة الليبي والمصري وحتى التونسي.
لأن سوريا تشبه لبنان فالغرب لا يريد أن يعيش «لبننة حرب أهلية سورية» تزيد من نزيف المسيحين ومن إفراغ الشرق من مسيحييه. وجاءت التفجيرات الإرهابية لتزيد من هذا الخوف.
الحل لا يكون بإبقاء الأسد الحل يكون بمعارضة «واسعة عام تشمل كل الأطياف» تحدد قبل إسقاط النظام بشكل ديموقراطي شكل سوريا غداً. عندها سوف تتحرك الأكثرية الصامتة للمساهمة باسقاط النظام وإبعاد تفرد السلفيين بالثورة.