- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

لعنة التخوين

معمر عطوي

أصبحت التهمة جاهزة ومعلّبة لدى أرباب الاصطفافات السياسية في لبنان والمنطقة تجاه كل من يتفرّد بآرائه أو من يحاول الجنوح نحو الموضوعية في تشكيل مواقفه وتعليقاته. وذلك لأن اللون الرمادي لم يعد مُعترفاً به في المشهد السياسي الذي توزعت ألوانه على مختلف الأطياف السياسية الفاعلة، فغدا لكل فريق لونه وشعاراته وأحكامه ولغته الخاصة التي تميّزه عن غيره.

أما اللون الرمادي فهو متنقل بين الأطياف بحسب طبيعة الاتهام، فإذا ما اختصرنا مشهد الاصطفافات بلونين أبيض وأسود يصبح لدينا معسكران متناحران، “المعتدلون” في كفّة و”الممانعون” في كفة أخرى. ولكلا الكفتين قداستها النابعة من صحة تحليلاتها ومواقفها وصوابية التزاماتها الآيديولوجية والسياسية، على طريقة “العقيدة الصحيحة” لدى السلفيين.

أما من أراد أن يعطي لعقله قيمة ويخرج من أحد القطيعين الى عالمه الخاص، ليبني تحليلاته التي تنتقد مواقف الجانبين، وآرائه التي تعالج الوضع السياسي بموضوعية وبحسّ انساني فإن التهمة جاهزة له بالتخوين.

ليس في هذا الموضوع سيء وأسوأ، كما ظننا في بداية الاصطفافات حين وقفنا الى جانب محور المقاومة ضد محور آخر بات واضحاً في تنفيذه خطة عمل دولية للقضاء على كل شكل من أشكال التحرر سواء الاقتصادي أو السياسي بذريعة بناء الدولة وحفظ الحرية والسيادة والاستقلال.

طبعاً الحكم على معسكر “الممانعة” بأنه أهون الشرين أو السوئين، نابع من بديهية سياسية وإنسانية لا تخرج بتاتاً عن المنطق، وهي حتمية الوقوف الى جانب من برع في وقف مشاريع تهديد إرادة التحرير في المنطقة واستبسل في مقاومة أكثر آلات القتل توحشاً في العصر الحديث. أما التحفط على هذا المعسكر فنابع من معطيات عديدة أبرزها الدكتاتورية التي تحكم بلدان هذا المحور واحتضانه لفاسدين ومجرمين ومنتفعيبن، ناهيك بالنزعة الدينية التي تتناقض كلياً مع مفاهيمنا العقلانية في الحرية وفلسفتنا الخاصة للحياة. أما خصومتنا للمعسكر الآخر، والتي لا تزال سارية رغم كل الهفوات والأخطاء التي وقع فيها المعسكر الأول، فتنبع من تركيبة هذا المعسكر الذي يضم مجرمي الحرب والفاسدين والوصوليين الى جانب شخصيات مستعدة لبيع الوطن، بمن فيه، لقاء ثلاثين من الفضة. ولعل أخطر ما وقع فيه هؤلاء هو طعن المقاومة في الظهر حين كانت تخوض أشرف حرب في الصراع العربي الاسرائيلي، ثم سعيهم الدائم الى تحقيق آمال الرأسمالية العالمية باتباع سياسة نيوليبرالية تستهدف الفقراء وتقضي على كل اقتصاد منتج لحساب اقتصادات ريعية تقوم على تشجيع الدعارة باسم السياحة وتسير في نظام الخصخصة لنفخ جيوب سماسرتها الكبار بأموال الضرائب والأتاوات المقنّعة.

في هذين المعسكرين ثمة من هو محق في أهدافه وطروحاته، لكنه يسيء استخدامها في نواحي معينة، وهو السيء، وثمة من هو واضح في الوقوف مع مشروع غربي كبير ضد تحرر الأمة وتحرير أراضيها وانسانها واقتصادها، وهو الأسوأ.

أما لغة التخوين هنا فهي ديدن المعسكرين، وميزة لكل منهما. فحين تنتقد ظلم النظام السوري ضد شعبه يخرج اليك من هو شاهر سيف التخوين ليقول لك “أنت عرعوري” أو أميركي أو اسرائيلي أو سلفي الى آخر المعزوفة. وحين تنتقد ديكتاتورية الأنظمة الخليجية يخرج اليك آخر من معسكر “المعتدلين” ليذكّرك ببشاعة الاستبداد في سوريا وإيران.

حتى بات المراقب الذي يحكم على الأمور من خارج المشهد محاولاً تبني نظرة موضوعية، مضطر عند كل تصريح أو انتقاد أن يعطي “بانورما” من المواقف الشمولية ليوضح موقعه على الخريطة السياسية. هناك دائماً من هو جاهز ليقول لك: ان لم تكن معنا فأنت ضدنا. وهناك من هو ممتشق سيفه عند كل زاوية ليقتلك بذريعة الخيانة وتبني بعض مواقف المعسكر الآخر، لعله عمى الألوان الذي يجعل الانسان لا يرى عير الأسود والأبيض في عصر أصبحت فيه الآيديولوجيات والعقائد الدوغمائية الاقصائية ظاهرة معيبة من منظور العقل.