لعنة العذريّة تلاحق المرأة
سكينة، قد يخال المرء أنّ اسمها يطبع سكون الدنيا كلها، سكون بلا حدود، سكينة أضحت وظلّت ساكنة. يا لسخرية القدر؟ لا بل يا لسخرية من حكموا عليها بالموت، لكنّها بقيت ساكنة، فما عساها أن تفعل؟ تذكرت مثلاً جزائرياً ساخراً، فالسّخرية كانت ولا تزال الدّواء النّاجع في الثّقافة الجزائرية عندما يريد المواطن أن يتناسى همومه وحتّى في أحلك الأحوال: “واش يدير الميّت في يدّ الغسّال؟“، السّؤال يبقى مفتوحاً.
سكينة صامتة، ربما في محاكاة لما قالته نوال السعداوي في أحد كتابتها: “شهرزاد قاومت الموت بالكلام وخلق حكايات جديدة كلّ يوم وكلمات جديدة، لكنّ بعض النّساء يلجأن إلى الصّمت كنوع من المقاومة. الصّمت نوع من الحجاب يفصل المرأة عن عالمها الخارجي“.
الصّمت مقاومة، والصمت أشد بل أقوى من الكلام وأحسنه تعبيراً. للصّمت دويّ مرعب، الصمت لغة القهر تصطحبه ابتسامة. صورة سكينة تناولتها غالبية الصحف الفرنسية. ماذا تخبرنا الصحف؟ العدالة الإيرانية خفّضت إدانة السّيدة سكينة أشتياني من الرّجم إلى الشّنق، تقدّم ملحوظ! الشعوب انتفضت لتنهض بمجتمعاتها، لكنّ حكامها أوجدوا طريقة جديدة لردع المقاومة الشّعبية، وزرع الخوف من جديد. الحلّ الأنجع هو “ضرب المرأة طبعاً… التجسّس على عرضها… شريفة أم غير شريفة؟… لنقس شرفها بمقياس العذرية… سنكسر شوكتها ونرعب الشعوب العربية والنساء جميعهن… عذراء أم لا؟“، هذا هو السّؤال الذّي يقلقهم، ينفخون فيه حتّى صار كالأسهم النّارية تطلق جعيرها لنخشى صواعقها، “يتحجّجون بالعادات والتّقاليد التّي يرضعونها من أثداء المجتمعات المتخلّفة“، كما تقول الكاتبة ليلى العثمان، فلتذهبوا إلى الجحيم حينها… العهر الحقيقي هو عندما تقهرون الشّعوب وتبيعونهم لأوّل نخّاس، وحتّى وإن كانت سكينة “عاهرة” أو “ساحرة“، كما يحلوا لكم أن تصفوها، فأنتم “قوّادون” من درجة أولى أيّها الشّرفاء، بل “أشرف القوّادين“.العيب ليس في العهر، العيب في القوادة، وهنا تذكرت ألبيرت كاموه عندما قال ساخراً: “عندما نتدبر كثيراً في المخلوق الذي هو الإنسان، أكان بدافع مهني أم لا، ينتابنا الحنين إلى الإنسان الحجري، على الأقل لا يحمل نوايا ناقصة“. هل الحلّ هو البحث عن الإنسان الحجري؟ أين تكمن الإشكالية؟ على ما يبدو أنّ المعضلة هو كون “رصيف الورود لا يجيب“. أنا لا أتحدّث عن كتاب مالك حدّاد، بل عن الحياة، عن رصيف الإنسان، عن رصيف تغيير نظرة الحياة هل نمنحها وردةً أم شوكًا؟ سكينة بين نيران الموت أكان ذلك رجماً أم شنقاً. فالموت واحد أيّها الأغبياء.
أترك صورة سكينة الآن بين عيني، وأعود إليها لاحقاً، سأكتب بخطّ رفيع، أكتب بخطّ امرأة، لأنّ المرأة عندما تكتب “تؤلم الرّجل، إنّها قسوة له، فعل الكتابة صعب للجميع“، كما تقول مارغريت دوراس، ليست نيّتي في جعل الرّجل يتألم، لا أريده أن يتألّم بل أن “يعي“، مجرد “وعيّ” لا غير. أظنّ أنّني لم أطلب الكثير، لكنّ أليس الرّجل والمرأة من سلالة البشر؟ في هذه اللّحظة بالذّات، بدأت أشك عندما أرى بعض التّصرفات المعتوهة بل المتوحشة تجاه النّساء.
أسئلة كثيرة غزت فكري بجيوشها الضّخمة التّي اصطفت واحدة بعد الأخرى لأطرحها: هل عندما تكون قضية ما تمسّ المرأة، تصبح قضيّتها غير إنسانية؟ قضية تافهة؟ مجردّ “هواجس” و“برانويا“؟ هل يجب جعل هذه القضية عبرةً لمن يعتبر لندخل الرّعب والهلع في قلوب النّساء؟
وبالتّالي أوّل حجة لرمسها هو وصفها بالهيستيرية، و“القنبلة الجنسية“، و“فينوس السّاحرة“، و“سارقة الرّجال“، و“العاهرة“. ألا نحتاج جميعنا إلى قراءة ولو بعض صفحات حول “الهيستيريا” التّي كتب عنها فرويد وأثبت أنّ الهيستيريا ليس مرضاً نسائياً، بل رجالياً أيضاً. الأمر لا يتعلّق بخلق صراع بين المرأة والرّجل، بل إيجاد أرضية تفاهم، أرضية متحضرة، ومحاولة فهم الآخر دون المساس بكرامة الآخر. العجيب في الأمر، أنّ هذا “الدّاء“، أقصد، التّفرقة بين الأنثى والذّكر أكثر ما يصيب هو مجتمعاتنا العربية والإسلامية. أنا لا أقول إنّ هذا الدّاء لا يصاب به الغرب، لكنّ داء التّفرقة بين الجنسين يبدو للأسف متأصلاً في مجتمعاتنا العربية، والأكثر أسفاً هو أنّ النبي محمد أول ما أوصى به الناس في حجة الوداع هو “أوصيكم بالنّساء خيراً“، ورددها مرات عديدة. يبدو أنّ الوصية أخذت بعكس مفهومها. قد يقول قارئ لي إنّني أصبت بالهيستيريا أو بي داء كره الرّجال… كلاّ.
سأحوّل وجهة فكري قليلاَ وأنقله إلى مصر، بعد ثورة 25 يناير وسقوط حسني مبارك، حاول الجيش المصري استخدام الثّورة لصالحه، ولإرعاب الشّعب، أوّل حلّ إرهابي أوجده هو “استفزاز المرأة“. كلّ امرأة متواجدة في ساحة التّحرير تقاد إلى المخفر أو المعسكر للتّحقيق من عذريتها. وأوّل ضحايا هذا التّوحش والإرهاب التّسلّطي الحيواني كانت الشّابة سميرة إبراهيم. “التحقق من العذرية“، أو “اختبار العذرية“، أخذت أتمعن مليّا وكأنّي تحت جهاز تلسكوبي أكتشف بدوري معاني فيروس “التّحقق من العذرية“. أترك الجهاز التلسكوبي يتمعّن جيّداً في “العذرية“، وأعود إليه لأقرأ عليكم نتائج الاختبار.
وأنا أقرأ الجديد في قضية سكينة أشتياني، تذكرت واقعة حدثت معي العام الماضي عندما التقيت بفتاة جزائرية، مثلي، كنت جدّ فرحة لأنّي اعتقدت أنّها ستحدثني عن أخبار البلد أو عن آخر كتاب قرأته أو حتّى أن نلتقي في مقهى ونتجاذب أطراف الحديث أو… أو… لكن سؤالها الأول كان: “هل أنت عذراء” و“هل تصومين رمضان” و“هل تأكلين لحم الخنزير“. للحظات خلت نفسي في مركز شرطة الأخلاق. نظرت إليها ملياً وابتسمت ولم أجبها، لأنّ أسئلتها لا تستحقّ رداً. وأنا أسمع رنات أسئلتها الخالية من كلّ معنى تذكرت محاضرة حضرتها للّسانية والسيميائية الفرنسية أن ماري أودوبين، وهي تحدثنا عن جلسة فكرية حول عملية تأنيث بعض الأسماء الفرنسية وكان من بين هذه الأسماء كلمة “شيف” (رئيس) Chef ، وعرضت اقتراحين للكلمة سواء بتأنيث ضمير النكرة ليكون: Un chef, une chef أو إدخال مزيد على كلمة “شيف” في أواخر الكلمة لتصبح “شيفاس“Une chefesse .
وحدثتنا عن أحد لقاءاتها في إحدى الإذاعات الفرنسية حول هذا الموضوع، وقالت لنا بكلّ طرافة وخفة ظل، وهي تجيب على الصحافي المذيع الذّي أراد أن يعرف قرار اللّجنة في موضوع “أون شيف” أو “أون شيفاس” لترد عليه: “لقد قررنا اختيار كلمة “أون شيف” لخفة النّطق“، فما كان من الصحافي إلاّ أن عقب مازحاً “يا للخسارة، لقد أفقدتموها جانبها الجسدي الأكثر إثارة“.
ابتسمت وأنا أتذكر هذه المحاضرة وأسمع تساؤلات عن العذرية التّي طرحتها عليّ تلك الفتاة، وقلت لنفسي “يا للفرق بين السيدة أودوبين وهذه الفتاة“. حقيقة أين تكمن المشكلة؟ المشكلة العويصة أنّ النّساء والجمعيات النّسوية في العالم يخرجن لينددن هذا العنف الجنسوي اليومي والمتواجد حتّى في العمل، فنساء حركة “فيمان” لم يترددن في التّظاهر نصف عاريات بلباس مغرية لإيصال رسالة قويّة للمجتمع الدّولي محتواها: “المرأة ليست آلة جنسية… المرأة لا تتزيّن ولا تبدو في أجمل حليها من أجل إغراء الرّجل بل لنفسها… فكفاكم النّظر إلى مظهرها وإهمال عقلها“. وأنا أقول هل مصداقية المرأة في العمل أو في المجتمع بصفة عامة تجوز عندما تمحو أنوثيتها وتلبس بنطلونا؟ هل مصداقية المرأة تكمن في القضاء على “الكعوب العالية” و“أحمر الشّفاه“؟ المشكل هو غياب حوار تضامني بين النّساء، وخاصة عند النّساء العربيات، وبدل أن ترى في عين امرأة أخرى مثيلتها ترى فيها العدوة والسّاحرة والعاهرة والخصمة وسارقة الرّجال والمحظية المرتقبة. أن نجعل المرأة عنكبوتاً تلتهم الرّجال هو تفكير معتوه، بل تفكير خطير، وإنّما المرأة هي التّي تجعل من بنت جنسها عنكبوتاً، إذا شمّت فيها قطرة عطر أو رأت عليها خط كحل أو وقع عينها على كعب عال أو طلة ثديّ ينمّ فيها الغيرة. سيّدتي لم نأت لنسرق مكانتك أو حبيبك أو زوجك أو غيره.
أقولها علناً، داء النساء العربيات هو “اتباع سياسة المحظيات“. أنا لا أخترع شيئاً، فهاكم امرأة عربية في مقال قرأته تقترح “عودة الجاريات“. ولهذا السّبب كانت ولا تزال المرأة “هبة للمجرم“، كما قال ألبيرت كاموه، واستعير في هذا المقام عبارات غادة السمان وأقول: “إن واصلنا على هذه الوتيرة في بلداننا العربية والإسلامية سننقرض إن شاء الله“.
ولذا كانت المرأة دائماً ولا تزال في جميع الثقافات ولا أقول فقط العربية، موضع “شبهة“، وهي دائماً “قيد تنفيذ الحكم عليها“، وهي معدومة ومعدمة في كلّ الأحوال. هذا هو “الوأد الحقيقي“، فالجاهلية قابعة في أعماقنا ولم نتخل عنها، أليس من واجبنا التّجرؤ على “ستربتيز فكري“، والنّظر إلى قضية المرأة كـ “قضية وعيّ عام، لا قضية صدقة مهذّبة، لطيفة كالقفازات البيض“، كما وصفتها غادة السمان.
أعود إلى مخبر العذرية لأتسلم التّحاليل. التحاليل الاجتماعية تقول لي أنّ نزاهة المرأة وشرفها يقاس بـ “غشاء بكارتها“، يعني إذا كنت “عذراء” فأنت “نزيهة وشريفة“، إن لم تكوني عذراء، فأنت “مجرمة، عاهرة وساحرة“. لكن كيف تسمحون وتتسامحون مع الرّجل خياناته وممارساته الجنسية، لكنّ إذا تعلّق الأمر بالمرأة تصفونها بالشّيطان والسّاحرة؟ كيف يكون مقياس شرف المرأة في جسدها فقط أو “بغشاء تولد به أو لا تولد“، كما نددت بذلك الدكتورة نوال السعداوي؟ إنّ الذّي يحكم شرف المرأة بعذريتها هو مجرم، هذا هو العهر في حدّ ذاته، هذا هو العهر الحقيقي… اقتلونا على مشانقكم، سيّدي، اقتلونا، ارشقونا بحجارتكم أيّها المجتمع… ارشقونا.
الجريمة الحقيقية هي اللامبالاة بحقّ سكينة أشتياني والتّفرج عليها “بنظرة الشّامت“، بدل اتخاذ موقف عادل. لتعدموها، اعدمونا، لكن سنبتسم لكم وأنتم تعدموننا، لأنّ ما تصفونه بجريمة ليست جريمة، إنّما المجرم الحقيقي والماكر الحقيقي يتستّر بقيم المجتمع، هذا هو العهر الحقيقي.
“أصل البلاء من حواء!”، هذا افتراء وكذب خطير تتدثر به المجتمعات لتوسيع هوة الفرق بين الجنسين، البلاء ليس من حواء بل عين البلاء هو واضع هذه المقولة… مظهر الإنسان ليس معياراً للشّرف، فيمكن أن تجد امرأة تصلي وتتبع التّعاليم الإسلامية بحذافيرها، ويعتبرها الغير قدوة حسنة وقلبها أسود، ويمكن أن تجد امرأة، لا تطبق أيّ تعليم، وحتّى وإن حكم عليها الغير بـ “العاهرة“، هي شريفة القلب، هذا كله مظاهر ونفاق المجتمعات… إنّها الكوميديا الإنسانية على مسرح الحياة.
نعم، اعدموا سكينة أشتياني، بل ارجموها، ارجمونا بحجارتكم لكن “من كان بدون خطيئة فليرجمها“، بل كما همست غادة السمان “من كان بدون خطيئة فنحن الذّين نرجمه لأنّه ليس إنساناً“.
الله يعطيك الصحة المجتمع العربي مجتمع مريض و متخلف غندما يتعلق الامر بالمراة نظرته اليها نظرة اتهام وحقد لا يحق لاي كان ان يحاسب المراة على امور شخصية بحتة كصيانتها لعذريتها ام لا
تاريخ نشر التعليق: 2012/02/06انا شخصيا لم ولن اتزوج من شخص متخلف يقيمني بعذريتي
اُكتب تعليقك (Your comment):