التفكير … القاتل (دراسة)
ذكرت قناة الـ «بي بي سي» في تحقيق لها منبهة في انه بعض الأحيان، يكون كل ما عليك فعله لكي تموت هو أن تظن فقط أنك مريض، كما يقول الصحفي العلمي ديفيد روبسون. فقد “تصاب” بمثل هذه المخاوف أو الظنون من دون قصد، لكن غالبا ما يكون لها عواقب وخيمة.
وجاء في التقرير: احترس من باعثي الخوف في النفوس، فكلامهم، مثل تعاويذ السحرة، ينشر أوبئة حديثة. فقد أدركنا منذ زمن طويل أن ترقُّب داءٍ ما أو توقع الإصابة به، يمكنه أن يكون بنفس خطورة إصابتك بجرثومة حقيقية.
ومثلما يمكن للتعاويذ أن تؤذي ضحاياها عن طريق قوة الإيحاء، فإن دفع شخص للاعتقاد بأنه مصاب بمرضٍ ما غالباً ما يؤدي إلى ظهور أعراض ذلك المرض عليه بالفعل. ويمكن للظن فقط أن يؤدي إلى أعراض مثل القيء، والدوار، وصداع الرأس، وحتى الموت. ويُطلق على ذلك اسم التأثير النفسي الضار بالصحة.
أصبح الآن واضحاً مدى سهولة انتشار هذه الظنون الخطرة عن طريق نشر الشائعات والقيل والقال، وأصبح لذلك تأثيرات قوية. ولعل ذلك هو السبب في إصابة بعض البيوت بـ “لعنة المرض”، وفي أن الأشخاص الذين يعيشون قريباً من توربينات الرياح، مثلا، يتحدثون عن إصابتهم بنوبات غامضة من دوار الرأس، والأرق، القيء.
إذا ما عانيت في ما مضى من أعراض تشبه الانفلونزا بعد تطعيمٍ ضد مرض ما، أو ظننت أن هاتفك النقال يسبب لك صداعاً، أو عانيت من حساسية يتعذر تفسيرها تجاه طعامٍ تناولته، فربما يعود ذلك أيضاً لوقوعك ضحية لذلك التأثير النفسي الضار.
يقول ديموس ميتسيكوستاس، من مستشفى القوات البحرية بأثينا في اليونان: “يدل التأثير النفسي الضار بالصحة‘ على طاقة ما في الدماغ، ولا نستطيع تفسيره بالكامل.”
عرف الأطباء منذ زمن طويل كيف يمكن للمعتقدات أن تكون مميتة – كما أظهرت ذلك مزحة أدت إلى نهاية مروعة لأحد ضحاياها. كان إريك مينينغر فون ليرتشنتيل طالباً في كلية الطب بفي فينّا في القرن التاسع عشر.
يصف إريك كيف وقع اختيار طلبة كليته على أحد المساعدين الممقوتين فيها؛ لكي يعطوه درساً لا ينساه. فانقضوا عليه، ثم أعلنوا أنهم سيقطعون عنقه. قاموا بعصب عينيه، ثم أحنوا رأسه على خشبة قطع اللحوم قبل أن يُسقطوا قطعة قماش مبللة على رقبته.
وبعد أن أعتقد الضحية أن هذه كانت لمسة شفرة فولاذية، ما كان منه إلا أن “فارق الحياة في الحال”.
وبينما تكثر الحكايات المشابهة لهذه، ركّز الباحثون المعاصرون بكثرة على قدرة العقل على الشفاء من الأمراض، وليس الإيذاء – ويُسمى ذلك “التأثير الوهمي الإيجابي”، المأخوذ من اللاتينية من كلمة “بلاسيبو”، وتعني “سوف أُرضي”.
تقوم كل دراسة سريرية في أيامنا هذه بتحديد عشوائي لمجموعة من المرضى ليتلقوا علاجاً حقيقياً بينما يتلقى آخرون علاجاً وهمياً بشكل حبة غير فعّالة. لا يعرف أيّ من المرضى ما الذي يتناولونه. وأحياناً، حتى أولئك الذين يتناولون تلك الحبة الوهمية غير الفعالة على الإطلاق يميلون إلى إظهار بعض التحسن– وكل ذلك بفضل إيمانهم فقط بقوة العلاج.
لكن بالإضافة إلى مثل هذه المنافع، غالباً ما يشكو الأشخاص الذين يتناولون العلاجات الوهمية من مضاعفات جانبية محيّرة – غثيان، أو صداع، أو آلام- لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنجم عن حبوب غير فعّالة. وكانت تكمن المشكلة في أن المشاركين في مثل هذه الدراسات السريرية يزوّدون بنفس التحذيرات الصحية والآثار الجانبية، سواء كانوا يتناولون العقاقير الحقيقية أو الوهمية. بطريقة أو بأخرى، فإن ترقّب حصول مثل هذه الأعراض يمكنه أن يكشف عن أعراض جسمانية حقيقية عند بعض متناولي العلاجات الوهمية.
يقول تيد كابتشوك، من كلية الطب بجامعة هارفارد الأمريكية: “إنها ظاهرة ثابتة، إلا أن الطب لم يعالجها أبداً.”
عبر السنوات العشر الماضية، بيّن الأطباء أن التأثير النفسي الضار بالصحة، والمأخوذ من اللاتينية من كلمة “نوسيبو” التي تعني “سوف أضرّ”، هو أمر شائع جداً. فبمراجعة الوثائق المتوفرة، وثّق ميتسيكوستاس تأثيرات قوية لذلك التأثير في كثير من علاجات صداع الرأس، والتصلب اللويحي (المتعدد)، والكآبة.
وفي تجارب سريرية على مرضى باركنسون (الشلل الرعاش)، أورد ما يقرب من 65 في المئة من متناولي العلاجات الوهمية بعض المضاعفات. يقول ميتسيكوستاس: “ينسحب واحد من عشرة من الذين يعالجون في تجارب سريرية بسبب تأثيرات نفسية ضارة، وهذه نسبة عالية.”
ورغم أن العديد من المضاعفات الجانبية هي ذاتية نوعاً ما – مثل الغثيان أو الألم – فإن الاستجابة لتأثيرات النفسية الضارة تظهر أحياناً على شكل طفح جلدي أو أعراض جلدية أخرى. كما يمكن في أحيان أخرى أن تُكشف بفحوصات جسمانية. ويضيف ميتسيكوستاس: “إنه أمر لا يصدق – يتناولون حبوب السكر، وعندما نقيس مستوى أنزيمات الكبد، نجدها مرتفعة.”
ولأولئك الذين يظنون بأن رغبة المتطوعين في حصول مثل هذه المضاعفات الجانبية هي، نوعاً ما، متعمدة أو من ابتداع خيالهم، نقول لهم إن فحوصات النشاط العصبي بعد تناول العلاجات الوهمية أظهرت أن النخاع الشوكي يبدأ في إظهار ردود فعل تجاه الألم المتصاعد حتى قبل احتمالية ظهور إحساس الشخص به.
ولننظر إلى حالة ذلك الرجل الذي سنطلق عليه اسم “س” والذي اقترب من الموت، وقد أبلغ عنها الدكتور روي ريفز في عام 2007. كان “س” يعاني من الكآبة عندما تناول زجاجة كاملة من الأقراص. وبعد ندمه على فعلته، هرع إلى قسم الطوارئ في المستشفى القريب، وانهار فور وصوله إلى صالة استقبال المرضى.
بدا الأمر خطيراً: كان ضغط دمه منخفضاً جداً، وتنفسه سريعا جداً؛ وأعطي في الحال سوائل مغذية عن طريق الوريد. رغم كل ما حصل، لم تبين فحوصات الدم وجود أي أثر للدواء الذي تناوله. بعد أربع ساعات، وصل طبيب آخر ليخبر الدكتور ريفز بأن الرجل كان يتناول علاجات وهمية ضمن دراسة سريرية على أحد الأدوية؛ لقد تناول الرجل “جرعة زائدة” من حبوب مصنوعة من السكر فقط.
وعند سماع الخبر، وبسبب شعوره بارتياح، تعافى “س” بعد فترة وجيزة جدا. لم نكن لنعرف أبداً ما إذا كان التأثير النفسي الضار قادراً حقاً على إماتة السيد “س”. أما فابريزيو بينيديتّي، من كلية الطب بجامعة تورين الإيطالية، فيعتقد أن ذلك احتمال مؤكد. إذا كان خوفك واعتقادك قويين بما فيه الكفاية، فإن المزيج الناتج من الهورمونات يمكنه أن يكون مميتاً، حسب قوله.
إن ما يقلق حقاً هو الظن بأن طبيبك قد يزيد من مرضك، بدون قصد منه. ومؤخراً، أصبح واضحاً كم يسهل نشر التأثير النفسي الضار للصحة. فحتى النميمة والشائعة العابرة يمكنهما أن يمهّدا مخيلة الشخص للمرض، وبتأثير فعّال.
في العام الماضي، على سبيل المثال، عرض بينيديتّي أن يأخذ أكثر من 100 طالب إلى أعالي جبال الألب في إيطاليا، إلى ارتفاع بلغ 3,000 متر فوق مستوى سطح البحر. قبل بضعة أيام من الرحلة، أخبر واحداً منهم فقط بأن هناك نتيجة محتملة مفادها أنه يمكن لقلة الأوكسجين في المناطق المرتفعة أن يسبب الصداع النصفي.
في اليوم الأول للرحلة، اكتشف بينيديتّي أن الشائعة وصلت إلى أكثر من ربع المجموعة الطلابية– وأن من سمعوها بدأوا يعانون من أسوأ صداع ممكن. والأكثر من ذلك، أظهرت دراسة أجريت على لعابهم وجود رد فعل مبالغ فيه تجاه حالة الأوكسجين، بما في ذلك كثرة الانزيمات المرتبطة بصداع الرأس الملازم للارتفاع عن سطح البحر.
يقول بينيديتّي: “تغيرت الكيمياء الحيوية للدماغ عند الأشخاص ’المصابين اجتماعياً بتلك الشائعة”. ويضيف: “يمكن لأصدقائك وجيرانك وأمثالهم أن يصابوا بعدوى التوقعات السلبية، وهي تتفشى بسرعة كبيرة، مما يؤدي إلى تأثيرات اجتماعية لتلك الأفكار الوهمية في مجموعة كبيرة من السكان.”
ماذا يمكن عمله؟ من الصعوبة إبطال مفعول المعتقدات القديمة، لكن تقارير وسائل الإعلام المعتبرة تستطيع أن توقف على الأقل انتشار الشائعات السامة والمرضية. في عام 2013، توصل روبن إلى أن عرض فيلم فيديو قصير عن الحساسية تجاه الطاقة الكهربائية يمكنه، ببساطة، أن يكون كافيا لإثارة أعراض لاحقاً – ويبدو أن الدلائل تبين العلاقة بين تفشي ظاهرة “متلازمة توربينات الرياح”، التي تبعت تقارير وسائل الاعلام المحلية.
وماذا عن الأطباء أنفسهم؟ تشير ريبيكا ويلز، التي تعمل في مركز “ويك فورست” الطبي في كارولينا الشمالية بالولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن هذه معضلة كبرى بالنسبة للطب المعاصر.
من الأمور الملزمة للأطباء هو أن يكونوا صادقين عندما يتعلق الأمر بالمضاعفات الجانبية للأدوية والعقاقير – وعليهم أن يحصلوا على “الموافقة المسبقة، وعلى علم واطلاع” المرضى – إلا أن هذا المفهوم غامض عندما يمكن للمعلومات نفسها، والتي تقدم للمريض، أن تزيد من سوء حالته الصحية.
تعتقد ويلز أن أطباء المستقبل سيحتاجون إلى تطوير إجراءات جديدة ليقرروا أيا من الحقائق عليهم كشفها، وطريقة وضع تلك المعلومات في إطار مناسب.
تعد العناية الواجبة أمرا حاسما في كل حالة – كما يشير إلى ذلك بينيديتّي. فالطبيعة المُعدية للتأثير النفسي الضار صحيا يعني احتمالية انتشار المضاعفات الجانبية التي يعاني منها شخص بمفرده لتشمل مجموعة أكبر من الناس.
الأمر الأكثر إيجابية هو أن التثقيف يمكنه أن يستنزف قوة وتأثير ذلك الشعور النفسي الضار. يحاول ميتسيكوستاس على سبيل المثال أن يشرح لمرضاه كيف يكونوا حذرين من توقعاتهم الخاصة. ويقول: “يتوجب علينا أن نُفهم المريض أن ما علينا محاربته هو مجرد خوف داخلي.”
وبحسب رأيه، لا يمكننا أن نتجاهل العلاقة بين العقل والجسم، بالرغم مما لدينا من أدوات طبية جديدة مذهلة.
ويضيف ميتسيكوستاس: “لآلاف السنين، كانت الأدوية في الأساس عبارة عن علاجات وهمية. ومن خلال الاستفادة من توقعاتنا، استخدم السحرة ما لدينا من إرادة للشفاء. لكن قوة الإرادة وحدها لا تكفي للتغلب على المرض – ولكنها أمر لا غنى عنه.”