الاسلام …ام العمران البشري العربي هو المشكلة ؟
الصراعات السياسية اجتماعية ام روحية ؟ الناس تتقاتل لأسباب مادية ام دفاعا عن آلهتها؟ بناء على مصالحها ام دفاعا عن عقائدها؟ على امتلاك مصادر الموارد والثروات وعلى توزيعها ايضا، ام على قناعاتها الفكرية والأيديولوجية؟ هل من الممكن ان تنشب حرب بين الناس التي تحب اللون الأبيض مع المولعين باللون الأرجواني مثلا ؟ انا أزعم أن الصراع السياسي هو اولا وقبل اي شيء نزاع على الموارد الاقتصادية التي تتيح للبشر ان يبقوا على قيد الحياة. وهو صراع يجري بين تجمعات بشرية تجمعها لا الأذواق بل المصلحة المشتركة الواحدة. هذه المتحدات ليست بالضرورة ذات شكل او نمط واحد وفي كل الازمان. فلكل زمن ولكل عمران بشري أشكال خاصة به وهي أشكال تعكس نمط المعاش السائد. فكلما ندرت الموارد و الخطر الذي يحف بالحصول عليها اعلى، وكلما كانت أهداف العيش اقرب الى تأمين الضرورات الأولية، كلما بقيت بنى البشر اقرب الى متحدات طبيعية قرابية ، وذلك بسبب السكن والإقامة ويسر الإعلان والتواصل. شرط اتحاد البشر وتجمعهم إذن شكل المعاش المسيطر. فكلما كان العيش مرتبطا بحجم انتاج او زرع صغير، او مساحة جغرافية محدودة، كلما تعززت فرص ازدهار العمران البشري الطبيعي وكلما ضعفت ظروف نشوء أشكال اجتماعية مجردة. كل بنية اجتماعية مهما كان حجمها صغيرا تحتاج الى ثقافة او روح توحدها وتمنحها هويتها التي من دونها تشعر بالبرد والهزال. الدين، أيا كان شكله او محتواه، يعطي المتحد الاجتماعي هذه الطمأنينة المطلوبة كما يزوده بحجج اخلاقية تدعم قضيته بالعيش، ناهيك عن الشعور بالاتحاد والشراكة مع قوة عظمى خارقة وخارجة عن الأُطر الارضيّة. هل يمكن للمتحدات الطبيعية ان تصمد ازاء توسع عمليات الحرف والصناعة والزراعة وعلى مساحة جغرافية واسعة؟ يبدو ان الجواب يمكن ان يكون بالإيجاب في ظروف يبقى فيها شرط العيش الأساسي ريعيا وغير مضمون بالزمن وكافيا، اي طبيعيا. فكل ريع بطبيعته معطى خطر تتحكم فيه الصدفة والندرة وقلة الثبات في الزمن. هذا ما حصل على الأغلب لمجتمعنا العربي الذي بقيت أحوال المعاش فيه خاضعة لصدفة الريع الطبيعي. فصمدت البنى الاجتماعية، العمران البشري، الطبيعية في انسجام كلي مع معاش طبيعي. فضلا عن ذلك يمكن القول ان خضوع بلادنا الى هيمنة استعمارية، يتميز مركزها بنمط معاش رأسمالي لا مصلحة له في تعميم أشكال إنتاجه ونمطه، كان من شأنه تعزيز مكانة وشأو نمط المعاش الطبيعي المتلائم مع الاجتماع الطبيعي. الصراع الاجتماعي ، اذا صح تشخيصنا، يكون في هذه الحالة بين متحدات قرابية كلية ذات خصوصية طبيعية وغير مركبة، كالطبقات مثلا. فالصراع على الموارد الريعية يهم القرابة ككل بالرغم من ان عائداتها لا توزع بالتساوي على أعضائها. التناقض الطبقي ينحصر هنا بداخل القرابة حول مغانم الريع. لكن هذا التناقض يبقى ثانويا طالما لم تنتقل احوال المعاش الى حالة جديدة تتيح للمتفلتين من القرابة امكان الحصول على شروط العيش من دونها. على ان قول ذلك لا يعني باي حال ان الصراع في مجتمعنا يمكن ان تكون علته غير مادية. فكون القوى الاجتماعية قرابية لا يعني ان أسباب الصراع جوهرها غير مادي، اي غير مشروط بالمعاش. من هنا فان محاولة فهم ما يحصل حاليا تضطرك الى العودة الى أصول المشكلة اي الى الصراع الاجتماعي على الموارد الطبيعية طالما بقيت طبيعية. ولا يمكن هنا، من الناحية المنهجية، الانتقال الى قبول مقولة صراعات دينية الزعم والعلة. فالأديان التي تتبناها المتحدات البشرية في صراعها الوجودي، كأفكار ومعتقدات، توحدها، ليست بنى اجتماعية لكي تتصارع فيما بينها ولا يمكن تصديق اي جهة تدعي الدفاع عن الآلهة في صراعها الارضي. فالآلهة بطبيعتها هي من القوة والجبروت، عند الجميع وبدون استثناء، بحيث لا يمكن ان تطلب هي الدعم من أناس الارض المعثرين بطبيعتهم طبعا. في هذا السياق يصبح تفسير الصراعات الحالية اكثر واقعية وأقل إغلاقا وغوغائية نظرية. وفي هذا السياق ايضا تبدو محاولات البعض تبني المصارعين كما يحلو لهم ان يقدموا أنفسهم وبلغتهم، محاولات بعيدة عن قدرة الفهم والمواكبة. الاخطر ان القبول بهذا المنطق يدفع بصاحبه الى الانزلاق الى معارج اللغة السائدة والخطاب-الفخ. فأن تكون المسألة قوى اجتماعية قرابية وتحمل عقيدة دينية ، لهو شيء ، وان تكون دينا يحمل هو القوة الاجتماعية التي تدافع عنه، لهو شيء آخر تماما. فهم المسألة على هذا الأساس يعفينا بالطبع من الحلول الثقافوية التي تدعونا الى نقد ذاتنا وإسلامنا قبل الإتيان بأي حركة. فنقد ذاتنا او اسلامنا، على ضرورته الدائمة، لن يقدم ولا يؤخر في الموضوع طالما ان لب الموضوع موجود في مكان آخر. فداعش مثلا لم تولد من رحم الصراع على الدين ، كما يؤكد الكثيرون، ورغم المظاهر، بل من رحم صراع اجتماعي ( ودولي ايضا بالطبع) آيته فقدان قرابة طائفية لغلبتها السياسية بما يبدو انه فقدان مديد والى غير رجعة. فوجود عسكرالنظام السابق في بغداد ووجود قياداتهم على رأس هذه الحركة وحركة النقشبندية وتحالفهم مع أنظمة مهيمنة على الصعيد الدولي، مؤشرات تتحدث عن صراع متحدات اجتماعية لها جذور في الارض وما تحتها اكثر من صلاتها الواهنة والمزعومة بالسماء. فهم الموضوع على هذا النحو يمنحنا قدرة اكبر على تفسير تبني جنبلاط مثلا لاسلام النصرة، دون غيره ، من قبل قبيلته الدرزية. فما الضير من تبني عقيدة دينية جديدة اذا كان الهدف حماية وصون القرابة ركن الوجود الأساسي. فهل بعد ذلك ما زلنا نحتاج الى إقناع الناس ب “تاريخية” الاسلام وإخضاعه للعقل وأحكامه؟ الم يقم عبثا الفكر العربي بهذه المحاولة سابقا ؟ الفكر لا يغير بغير الفكر والاجتماع بغير الاجتماع. ما عدا ذلك عبثا يبني البناؤون.