أسئلة حول حرق #داعش للمخطوطات
خالد بريش
إنه لأمر محزن بلا أدنى شك ما يقوم به تنظيم داعش في مدينة الموصل والمدن الأخرى من تكسير وتدمير للآثار وحرق لمخطوطات عربية وسريانية ويونانية قديمة كانت تحفل بها مكتبة الموصل. ولكن المحزن أكثر هو مرور هذا الخبر كأي حدث عابر حيث لم يلق نفس الصدى والاهتمام الذي لاقاه مقتل أحد الصحفيين أو الرهائن من قبل وسائل الإعلام المختلفة مع العلم أنه جريمة لا تغتفر بحق التراث الإنساني والبشري، وأنه ليس بأقل فظاعة وفظاظة من الجرائم الأخرى… ولكن المحزن أيضا هو أنه ليس بمقدور أي مسؤول اتخاذ أي قرار أو إجراء رادع وفوري يوقف هذه المهازل التي ترتكب باسم الإسلام، بل إن كل العالم اليوم يقف مكتوف الأيدي متفرجا مع كثير من اللامبالاة.
وليست هذه أول جريمة شنعاء ترتكب في بلادنا بحق تراثنا وحضارتنا فقد مورست قبلها جرائم مماثلة على يد الأمريكان عندما دهموا بغداد واحتلوها في عام 2003 حيث دمروا بعض تلك الاثار ونهبوا بعضها الآخر ووجد بعض القائمين على الأمر حينها الفرصة سانحة فأتموا المهمة وقاموا أيضا بأبشع عملية سطو وسرقة للآثار والتحف والمخطوطات التي لا تقدر بثمن. وكذلك حصل نفس الأمر على يد إحدى أخوات داعش في تومبوكتو عاصمة الثقافة العربية الإسلامية ومخطوطاتها في قلب أفريقة، وكذلك حدث قبلها بقرون بعيدة وعلى يد المغول أثناء اجتياحهم لبغداد حيث بقي ماء نهر دجلة في حينها أسود أياما طوالا بسبب كثرة الكتب التي ألقيت فيه، حتى إن المؤرخين ذكروا أن الناس كانوا يعبرونه مشيا أو على دوابهم من كثرة الكتب التي صنعت لهم ممرا آمنا. أما على مستوى الأفراد ومكتباتهم فقد مرت على بعض علماء العرب والمسلمين عبر التاريخ محن تم خلالها إحراق كتبهم أو إعدامها في حوادث معروفة ومذكورة في الكتب إلا أن ذلك كان يتم بشكل فردي وفي كثير من الأحيان بسبب وشاية بعض العلماء وحسدهم لبعضهم، ولخوف الحكام من نفوذ أولئك العلماء وكتاباتهم على سلطتهم وسلطانهم، أو لإرضاء بعض الجهلة من رجال الدين والرعاع في المجتمع مما يساهم في تحسين صورتهم كحكام محبين للدين وأنهم يأتمرون بأوامر العلماء… ولكن تلك الحوادث تبقى محدودة وكلنا يستهجنها ويدينها بمجرد مطالعة أخبارها، ولكنه لم يصل إلى هذا المستوى من العنف والتخريب وهذه الفظاظة التي نراها اليوم…
ومما يثير الانتباه عند تلقينا لخبر كهذا هو علمنا المسبق من أن داعش تتاجر وتبيع النساء الحرائر عبيدا لتغطي حاجتها الماسة للمال… فيتبادر إلى الأذهان عندها السؤال التالي :
– هل داعش التي تبحث عن المال بكل الوسائل هي من الحمق بمكان لتحرق هذه المخطوطات التي من الممكن أن تجلب لها ثروة ضخمة…؟
مما لا شك فيه أن في داخل داعش أناس يعرفون هذه المخطوطات ويعرفون قدرها وقيمتها المادية والتاريخية حق المعرفة، ويعرفون أنها قد تدر عليهم عائدات أكبر بكثير من العائدات الأخرى ولهذا وعلى الأرجح أنها ستباع في السوق السوداء ولن يتكبدوا كبير عناء في إيجاد المشتري لأنه يقف خلف الباب هذا إذا فرضنا أنه لم يكن هو نفسه من أوحى لهم بالقيام بعملية حرق وهمية وتمويهية لكي يداري ما سيقدم عليه ولكي لا تتجه أصابع الاتهام إلى مشتر بعينه ومعروف سلفا، وبالتالي يضيع أثر تلك المخطوطات ولا يتم فيما بعد البحث عنها، وخصوصا أن عملية إحراق داعش للمخطوطات وإلى يومنا هذا سمعنا عنها ولم نرها أو يؤكدها بعد أحد، بل إن البعض رأوا بضع مئات من الكتب تحرق في مكتبة جامعة الموصل دون تحديد لنوعيتها وطبيعتها ومضمونها…
– فمن مصلحة من كل هذا الخراب الذي يلحق بتراثنا الحضاري ومخطوطاتنا…؟
– ومن يريدنا في المنطقة على شاكلته تماما كشجرة بلا جذور وبلا تاريخ نتفاخر ونعتز به…؟
– ومن في كل منطقة الشرق الأوسط وجوده أصلا بلا تاريخ ويبحث عنه في سراب الزمان وبين ذرات التراب التي يغربلها… ويبحث أيضا بين الخرافات المنسية والترهات المصطنعة من فسيفساء أوهام يركبها ويجمعها إلى بعضها فَتُثبِّت قواعد وجوده وكيانه في المنطقة…؟
– ومن من الدول في منطقة الشرق الأوسط هو فوق القوانين وخارج إطار المحاسبة الدولية ولا يستطيع أحد مجرد الإشارة إليه بإصبع…؟
فمن خلال الإجابة على هذه الأسئلة نستطيع التعرف على هوية المشتري وعنوانه…!!! طبعا إنه ليس وحده في الميدان بل يضاف إليه آخر على حدود أمتنا ويتمترس بشعار المستضعفين تارة وبالممانعة والعداء للغرب تارة أخرى ولكنه يترصد بنا شعوبا وتراثا وحضارة.
إن البلاد العربية وبالرغم من الدمار الذي لحق بتراثها وآثاراتها الحضارية عبر التاريخ بأيدي الاستعمار الذي نهب وسرق ما سرق سرا وعلانية، وأحيانا بأيدي أبنائها الجهلة بتاريخهم وبقيمة تراثهم الحضاري وفحواه هي بلاد كل شبر فيها غارق في عمق التاريخ وكل حجر فيها مرتبط بحادثة أو بواقعة بعينها ويحكي ألف حكاية وحكاية… وكل زاروب أو عطفة أو منحنى فيها يحمل من نسمات الأجداد ما يحمل… بينما المشتري الذي أعنيه سرق قرى وضياع وبلدات بأكملها من أهاليها وشردهم منها وغير معالمها وأسماءها في عملية تزوير لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية… وفي كل يوم يخرج على العالم باكتشافات جديدة هي في الأساس مسروقات تسربت إليه من متاحفنا وأرضنا التي لا تنضب فيها ينابيع التاريخ وأنهاره…
اليوم وبفضل التقنيات الحديثة أصبح من الممكن تغيير معالم أي مخطوط ويوجد خبراء مختصون في الخط والتزوير بإمكانهم إضافة تاريخ جديد أو تغيير تاريخ قديم أو اسم الناسخ وبلده وإجراء بعض التعديلات الطفيفة على نهاية أي مخطوط (حَرْد المتن) أو على بدايته (السَّرْلوْحة)، ومن ثم يتم تصوير المخطوط وعرضه على أجهزة خاصة دون إعطاء الإذن للباحثين بالاطلاع على نسخته الأصلية فيختلط الحابل بالنابل ونجد أنفسنا أمام نسخة جديدة لمخطوط يدعون أنهم وجدوها في صناديقهم المنسية، وهي تكون أصلا قد سرقت من مكتبة الموصل أو بغداد أو غيرها من المكتبات الخاصة المستباحة وما أكثرها في بلادنا.
ومما يثير الغثيان والاشمئزاز في هذه القضية هو إعلان داعش أن هذه الكتب والمخطوطات مخالفة للإسلام وأنهم يقومون بجريمتهم هذه باسم الإسلام…!!! مع العلم أنها مخطوطات سطرت وكتبت في ظل دولة الإسلام وبرعايتها، وبأيدي كبار علماء العرب والمسلمين الذين كان كل واحد منهم أكبر من كل مبايعين داعش مجتمعين، ولا يُشَك لحظة واحدة لا في قدراتهم العلمية والفكرية ولا في إخلاصهم لأمتهم فيما كتبوا وأنتجوا وأبدعوا… وأن بعض خلفاء المسلمين وحكامهم قد بذلوا في حينها الغالي والنفيس من أجل الفوز ببعضها في مكتباتهم.
وأمام ما يجري لا بد من التحرك وعلى كل الأصعدة لأن هذه المخطوطات والآثار ليست ملكا لداعش ولا لأي شعب أو دولة بعينها بل هي إرث حضاري وملك للإنسانية جمعاء وأنه سيبقى في سياق اللامعقول واللامفهوم والعبث الفج هذا العداء للآثار وللكتاب وللعلم والمعرفة وصدق من قال : الأعمى فقط من لا يعرف النور…!!!