طهران وسياسة حافة الهاوية
معمر عطوي
لم يكن التوتر الذي شهدته منطقة الخليج خلال الأسبوعين الماضيين بين إيران والولايات المتحدة أمراً طارئاً على مسار العداء التاريخي بين البلدين، ولا هو مؤشر عملي لإمكان وقوع حرب قريباً في المنطقة. فمسيرة العلاقات الإيرانية الأميركية منذ العام 1979، مرّت بالعديد من المحطات كان بعضها في إطار تعاون وتسهيل مهمات، بينما كان الآخر في إطار كباش لاختبار القوة أو جس النبض أو رسائل دموية متبادلة.
المفارقة الغريبة أن العداء العقائدي الذي يتغنى به قادة الجمهورية الإسلامية لواشنطن “الشيطان الأكبر”، كما وصفها الخميني، لم تمنع نظام الملالي من التورط في فضيحة “إيران غيت” التي سمحت خلاله الفتوى الدينية بشراء أسلحة إسرائيلية بوساطة أميركية كانت تهدف لاطلاق رهائن أجانب احتجزوا في لبنان خلال الحرب الأهلية.
كذلك لم تعترض الفتوى الدينية لدى آيات الله على سياسة طهران في تسهيل غزو أفغانستان في العام 2001 بغية التخلص من عدو عقائدي شرس هم نظام طالبان ولو بأيدي الشيطان الأكبر. سياسة تكررت في العراق أثناء غزوه عام 2003، حين سهل الإيرانيون للأميركيين عملية الغزو فرحين بالتخلص من عدو قومي شرس هو صدام حسين. لقد حضنوا عملاء أميركا في العراق ودعموا عملية سياسية قادها الأميركي بول بريمر أدت الى ما أدت اليه من تقسيم العراق على أساس مذهبي وطائفي وعرقي أعاد الى عهود أكثر تخلفاً.
الإيرانيون الذين هددوا ولا يزالون يهددون الولايات المتحدة ودول الغرب بالويل والثبور وعظائم الأمور لو اعتدت على ايران، أصبحت الصيغ اللغوية لتهديداتهم محفوظة عن ظهر قلب لدى المتابعين، لكن في السياسة ورغم المناورات التي تحمل رسائل حارة الى الغرب، هم براغماتيون إلى أبعد الحدود، والحديث عن المعارضة المبدئية أو الصراع العقائدي هو للاستهلاك الداخلي أكثر من كونه استراتيجية ثابتة في الصراع مع الغرب.
هذا لا يمنع من أن ثمة حرباً قائمة بين الطرفين أحياناً بالوكالة عبر استهداف جنود الاحتلال الأميركي في العراق، كما كان يحصل قبل انسحابه الشهر الماضي، أو من خلال دعم تيارات مقاومة ضد الاحتلال الأميركي في أفغانستان.
وأحياناً على الطريقة الأمنية الاستخبارية، مثل اغتيال علماء نووين إيرانيين أو خطف بعضهم أو التغرير ببعض آخر وجره للتعامل مع الاستخبارات الأميركية، وقد يكون من خلال ارسال فيروسات تستهدف البرنامج النووي الايراني وقد نجحت الأجهزة في تعطيل جزء من هذا البرنامج لعدة أشهر. ويبدو أيضاً أن الحرب دائرة حالياً على طريقة زعزعة النظام من الداخل من خلال دعم مجموعات مسلحة معارضة للنظام في سيستان بلوشستان أو كردستان أو الأهواز، أو بنشر شبكات تجسس عبر البلاد كما هو واضح من إعلانات وزارة الاستخبارات الايرانية المتكررة عن تفكيك شبكات على هذا النحو.
في أي حال، الحرب شرسة ضد ايران من أجهزة أمنية متعددة، لكن الرد الإيراني يتم دائماً في الخارج، إما في العراق، حيث كانت تدعم طهران عبر فيلق القدس التابع للحرس الثوري فصائل مقاومة سنية وشيعية على حد سواء بما فيها بعض خلايا تنظيم القاعدة، أو في أفغانستان. وقائع تبين حجم المفارقة التي تصنعها براغماتية الملالي القائمة على حفظ المصلحة ولو على حساب المبادئ؛ تدعم فصائل “اليوم الموعود” و”عصائب أهل الحق” في العراق وتقف الى جانب خصوم هؤلاء السياسيين في المجلس الاسلامي الأعلى وحزب الدعوة. كذلك في أفغانستان تدعم نظام رجل أميركا في كابول حامد قرضاي، وتمد فصائل مسلحة من ضمنها طالبان بالسلاح لقتال الأميركيين.
لعلها مقاربة مزودجة تنم عن تفكير سياسي نفعي بامتياز، أو لعلها سياسة حافة الهاوية التي تلجأ الى التصعيد فتهدد بإغلاق مضيق هرمز وتعلن في الوقت نفسه عن تجارب صاروخية بالستية عابرة للقارات وانجازات على صعيد الانتاج النووي، لكنها في الوقت نفسه “مستعدة للحوار” بلا شروط مع الغرب. تلك هي السياسة الإيرانية طويلة النفس التي طالما شبهها المراقبون بحياكة السجاد الذي تشتهر فيه الدولة الفارسية. في أي حال هي سياسة تهدف الى تحسين شروط إمكان تسوية تضمن موقع الجمهورية الإسلامية ودورها وريادتها لدول المنطقة، ولا سيما بعد انسحاب الاحتلال الاميركي من العراق، من جهة وتحافظ على الحد الأدنى من مقوماتها كدولة إسلامية تتصدّر الدول الأخرى في تبني ظاهرة الإسلام السياسي في العالم الاسلامي، عبر تفعيل متواصل لآليات العداء للغرب. لعل أحد تجليات هذه الفرضية تقارب طهران أخيراً مع حركات الاخوان المسلمين في بعض الدول العربية التي باتت قاب قوسين أو أدنى من التحول نحو دول إسلاميّة. اذن الحرب قائمة لكن الحرب التقليدية التي نعرفها لن تقوم في المدى المنظور لأن لا قدرة لأي فريق على تحمل نتائج عمل مجنون كهذا.