ماذا يحدث بالضبط بين الأتراك والأرمن؟
طال وكثر الحديث عن الذكرى المئوية لإبادة الأرمن، عدة محاضرات تعقد من هنا وهناك يشرف عليها على وجه الخصوص مجلس الأمة الفرنسي، وثائق وأرشيفات تذيعها مختلف القنوات الفرنسية وحتى الناطقة منها بالعربية أكان ذلك تضامنًا مع ذكرى الشعب الأرميني أو تخوفًا من العقوبة التي ينصها مجلس الأمة في حالة نكران الإبادة الأرمينية، ومهما يكن وجدنا فرنسا بمختلف وسائل إعلامها تسترجع ذاكرتها إلى الوراء بمائة سنة (أو أكثر إذا ما استندنا إلى بعض الكتب التاريخية التي تحدثت عن المجازر التي ارتكبت بين 1894 و1896)، الغريب هو أنه عندما يتعلق الأمر بالعودة إلى الوراء بسبعين سنة على أرض الجزائر يضيع مسلسل شريطها التاريخي بل يبدو أنه في كل مرة عندما يتعلق الأمر بالجزائر والجزائريين تصاب فرنسا بداء الزهايمر أو لنقل بـ”فقدان الذاكرة”، وماذا لو وجدت فرنسا نفسها تعود بكبسولة الماضي بنحو 132 سنة إلى الوراء فالصفحة سوداء وتتخللها الكثير من البشائع؟
كيف لا؟ وقد شاهدنا خلال الذكرى السبعين لوقوع مجازر 8 ماي 1945 كيف تناولت وسائل الإعلام الفرنسية بمختلفها هذه المجازر فمنها من ذكرها على سبيل الذكر فقط أما باقي الوسائل الإعلامية مرت عليها مرور الكرام دون أن تتوقف هنيهات للاستقصاء عما يجري في الشارع الفرنسي (ولو على سبيل الفضول).
وكانت دعت العديد من الجمعيات والتجمعات المتواجدة في فرنسا إلى التجمع والخروج في مسيرة يوم 8 ماي 2015 انضم إليها العديد من السياسيين والمفكرين والمؤرخين الفرنسيين من بينهم المؤرخ “أوليفييه غران ميزيون” (Olivier Grand Maison) لكن يبدو أن وسائل الإعلام الفرنسية لم تقم بتغطية هذا الحدث، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو ما المانع، أو لنعيد صياغة سؤالنا بطريقة أخرى: ما الذي يمنع فرنسا من فتح أرشيفها؟
ومهما يكن، فالحديث في هذا المقام يتمثل في معرفة لماذا تهتم فرنسا إلى هذا الحد بالإبادة الأرمينية، هل لديها مشاريع معينة تريد تحقيقها في تركيا؟ أو لنقل بعبارة أخرى، ماذا يحدث بالضبط بين الأتراك والأرمن وما الذي يربط فرنسا بين الشعبين؟
بدوري بعد قراءتي للعديد من الكتب بشأن موضوع الإبادة الأرمينية تساءلت بمثابتي “قارئة” (فأنا لست بالسياسية ولا بالمناضلة ولا يعهد إلي انتمائي إلى أي حزب أو تجمع ما، بل مجرد فضول “قارئة” دفعني إلى التخمين في مسائل عديدة) تساءلت ماذا يخفي كل هذا؟
وكان أن وقع اهتمامي على كتاب أصدرته مؤخرًا دار النشر الفرنسية “ألبان ميشال” يحمل عنوان “الإبادة الأرمينية، من الذاكرة المذلة إلى الذاكرة المشتركة” (« Le génocide arménien, de la mémoire outragée à la mémoire partagée ») قام بكتابته “ميشال ماريان”، وهو أستاذ محاضر من أصول أرمينية وسبق له نشر عام 2009 كتاب “خطاب الطابو الأرميني” () بمساعدة “أحمت إنسال”
ويقول “ميشال ماريان” إن عام 2015 هو عام خاص بالنسبة للشعب الأرميني، فهم يتمنون أن يلفظ الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” كلمات تجاه “ذكرى الإبادة الأرمينية”، أن يجتمع مختلف رؤساء الدول لإبراز هذه الذكرى بما أن الحكومة التركية ترفض الاعتراف بها، وحتى أن ينضم كبار العرب ويشاركونهم محنة ذاكرتهم، ويضيف أن الأولوية في هذه الذكرى تكمن في معرفة “الحقيقة التاريخية” بين حقبتين اثنتين: الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية.
والبعض يتساءل، لماذا تم استهداف الأرمن؟ الجواب سهل فالعامل الديني كان هو الأساس وهو عامل لا زالت تستخدمه معظم الدول ليومنا هذا تحت طائلة الأحقاد الدينية الدفينة التي طواها الزمن، فالأرمن هم مسيحيون بالدرجة الأولى، لكن هذا العامل هو مجرد حجة لا غير، السبب الحقيقي هو سبب جغرافي بحيث أن الأرمن كانوا يقطنون في الأراضي التي كانت تعتبرها تركيا تابعة لها، ومهما يكن الأمر لنقل أن الأرمن وجدوا في الوقت غير المناسب.
ويقول “ميشال ماريان” إنه لحد الآن معرفة من ارتكب هذه الإبادة يخالها الغموض حتى وإن كان شباب حزب “جمعية الاتحاد والترقي” هو من كان وراء هذه الإبادة إلا أنه يبدو حسب الكاتب أن ذلك كان بتواطؤ من قبل الدول الأوروبية.
ومهما يكن، فغالبية الأتراك نجدهم يساندون الأرمن في محنتهم، لاسيما بعد وصول الإسلاميين المعتدلين في تركيا إلى الحكم، ففي 2002، أكان ذلك رغبة من الحكومة أو تحت طائلة ضغوطات أجنبية ليتاح لها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن أيضًا بطلب من المجتمع التركي بدأ التفتح نحو هذه الذاكرة، أولها كانت زيارة أردوغان إلى معرض صور خصص للأرمن خلال القرن العشرين.
وأبعد من ذلك فقد قامت جامعة خاصة بـ”بقلي” بتنظيم ندوة عن المجازر التي ارتكبت في “أدنا”، تبعتها ندوات أخرى في الموضوع نفسه.
الخطوة الجديدة لدى الأرمن كانت عندما قدم “أردوغان” تعازيه، من خلال بيان، يوم 23 أفريل 2014 لأبناء ضحايا مجازر 1915.
وفي بداية عام 2015، بدت الحكومة التركية محتارة، فـ”أحمد داوود أوغلو” تحدث عن “ذاكرة عادلة”، ويبدو حسب “ميشال ماريان” أن “أردوغان” و”أوغلو” يرفضان قبول فكرة أن المسلمين يكونون ارتكبوا مجازر، لكن وحتى وإن راجعنا الأرشيفات وقرأنا بعض الكتب التاريخية يتبين لنا أيضًا أن المسيحيين ارتكبوا هم أيضًا مجازر بحق المسلمين، وإن صح الحديث عن مجزرة ارتكبت في حق شعب ما ألا يصح لنا في السياق نفسه الحديث عن مجازر أخرى ارتكبت في حق شعب آخر؟ أم أن مبادئ حقوق الإنسان تستعمل للحديث عن ذكرى شعب معين كالأرمن وتداس تلك الحقوق عندما يتعلق الحديث عن المجازر المرتكبة في حق الجزائريين؟