“ثورات ملهوفة” لمحمد النابلسي: نكران تضحيات الشعوب لصالح “المؤامرة”
معمر عطوي
يطرح كتاب “ثورات ملهوفة” للباحث الدكتور محمد أحمد النابلسي اشكاليات عديدة في معالجته لظروف نشأة ثورات الربيع العربي، محاولاً – كما عرّف كتابه- إجراء قراءة مستقبلية للتحولات الشعبية العربية. بيد أنه يقع نفسه في شرك اللهفة حيث بدا ملهوفاً لإخراج كتابه على عجل مضمّناً إياه العديد من التفسيرات التي لا تصب الا في نظرية المؤامرة. كما ظهر العديد من الأخطاء اللغوية والمطبعية نتيجة تسرّع في نشر الكتاب، الذي كان يحتاج لبعض الوقت ريثما تنضج الأمور حتى يكون أكثر عمقاً وقرباً من الظاهرة موضوع التحليل.
ثمة دراسة سياسية انثروبولوجية جيوستراتيجة، صدرت عن دلتا للأبحاث المُعمّقة، أراد من خلالها النابلسي توصيف الوضع العربي القائم في ظل الربيع العربي، ملقياً على القارئ نظرة تشاؤمية تعمل على إجهاض ما تحقق من انجازات حتى الآن، ولا سيما سقوط حاجز الخوف الذي فتح الطريق أمام الشعوب لتعبّر عن نفسها للمرة الأولى منذ عقود.
فهو يرى في كتابه، الذي يقع في نحو 450 صفحة من القطع الوسط، أنه “مهما بلغت حدة الانفعالات المُحرّكة لشوارع بعض الدول العربية فهي يجب ألاّ تبلغ حدود العمى السياسي بتجاهل التوازنات الجيوستراتيجية الخطيرة في المنطقة والمهددة بالتحول إلى معادلات أكثر خطورة”.
فالكاتب بدا في العديد من مفاصل الكتاب ذلك المواطن العربي الذي يرى أهمية بقاء “الستاتيكو” الذي كان قائماً قبل تحركات الشعوب، على طريقة “الله يرحم صدام حسين” لما آلت اليه الأمور اليوم في العراق من تفجيرات وفتن طائفية وتركيبة سياسية هشة قائمة على توزيع مذهبي عرقي متخلف للحصص في الاقتصاد والحكم.
نعم، ربما كان الوضع العراقي، الذي بات نموذجاً لأي تغيير آخر يحصل في العالم العربي، بمثابة فزّاعة، لكن الوضع العراقي مختلف فهناك كان التغيير احتلالاً أميركاً عسكرياً وسياسياً واضحاً بتعاون من المعارضة الداخلية. بينما الثورات العربية التي انطلقت من تونس ومصر انطلقت من الشارع وعبّرت عن هواجس الناس ومطالبهم في الحصول على الحريّة والكرامة ورغيف الخبر، بغض النظر عن تورط بعض الناطقين باسم هذه الثورة او تلك في العمالة لدول غربية او حتى شرقية. فقد دخلت الأصابع من هنا وهناك في وقت لاحق، لمصادرة ثمار الثورة او لتحريك بعض رجالاتها أو لاختراق وحدتها في هذا البلد او ذاك.
طبعاً ليس بالأمر السهل القيام بثورة في ظل جدران الخوف التي كانت تحيط بالمواطن العربي من كل الاتجاهات أحياناً باسم الحفاظ على “قلعة” الممانعة ودعم المقاومة أو الحفاظ على الاستقرار والوحدة وضمان استمرار ضخ المساعدات الغربية.
لكن ان يلجأ الكاتب الى تسفيه هذه الثورات مع تعاطف نسبي مع ثورات مصر وتونس والبحرين، فذلك هو الاجحاف بعينه. اذ كيف يسمح الكاتب لنفسه بأن يقول “فمهما بلغت أهمية ما بات يفرض علينا (بضغط الإعلام الغربي) تسميته بـ “الربيع العربي” فهي لا تصل إلى درجة تقديمها على اللحظة الجيو-استراتيجية… وهكذا يجب قراءة كل الربيع العربي من دون استثناء على ضوء المشروع الأميركي لتغيير خريطة الشرق الأوسط المستند إلى مشروع برنارد لويس لتقسيم الدول العربية”.
وفي معرض حديثه عن خريطة الاحتجاجات السورية، يقول النابلسي إن “الاحتجاجات السورية الحالية هي المدخل الأميركي لتفجير التوازنات الجيواستراتيجية في المنطقة ما يقتضي التركيز عليها بصورة خاصة. فهذه الاحتجاجات ومنذ انطلاقتها أظهرت عجزها عن التكامل فيما بينها، حيث طرحت كل فئة من الفئات السورية المحتجة مطالبها الخاصة”(298). مع ان خلافات وجهات النظر بين المعارضين لا تبرر الوقوف ضد هؤلاء الأبطال الذين نزلوا بصدور عارية ضد آلات القمع التي لم تعمل يوماً على مجرد التفكير بتحرير فلسطين. اللافت المثير للسخرية في هذه الدراسة أن الكاتب يكرر عبارة “بغض النظر عن نظرية المؤامرة”، ويعود ليقع فيها حتى أذنيه.
فعلاً من المعيب أن نجد كاتباً عربياً يمارس هذا النكران لتضحيات الشعب الذي عبّر للمرة الأولى عن قراره بجراة ودفع دماءً غالية ولا يزال حتى يتخلص من مجموعة فاسدين مجرمين حكموا هذا الوطن من المحيط الى الخليج بتعسف وتخلف وحقد أعمى، فصادروا الحريّة والكرامة ورغيف الخبز والتنمية ولم يحافظوا على السيادة حتى. وفي الأخير يأتي من ينظّر عليهم ويستخدم تعبير “ما يسمى بالربيع العربي”. وهل كل هذه الدماء التي سالت ولا تزال تسيل في شوارع حمص ودرعا ودير الزور والمنامة وميدان التحرير وصنعاء وبنغازي هي حصيلة هذا المشروع الأميركي الذي يتحدث عنه؟ هل هناك عاقل يمكن ان يقتنع أن مصلحة أميركا في توتير البلدان التي تحيط بالكيان الصهيوني ونشر الفوضى فيها لدرجة قد تهدد أمن هذا الكيان نفسه؟ او انه مقتنع بأن الدول العظمى مرتاحة لتحريك شعوب لا تعرف عنها سوى القليل في وجه أنظمة لا تقول لا لواشنطن بمن فيها سوريا. وهل يناسب هذه الدول التي تحيك المؤامرات – بلا شك- ان تتغير حكوماتنا الى حكومات ديموقراطية قد تحمل معها معارضي وجود اسرائيل في المنطقة وتسعى الى مقاتلتها؟
ولماذا استثناء سوريا دائماً وكأن نظامها يحكم بديموقراطية رائدة، وهل ممانعة النظام السوري التي لم تحم عماد مغنية ومحمد سلمان من الاغتيال وسمحت بقصف مفاعل نووي في الكبر ومواقع تدريب لحركة الجهاد الاسلامي في غرب سوريا وغارات أميركية على البوكمال في الشرق، هي التي ينبغي التضحية بالحرية والكرامة من أجل بقائها؟
لقد تحدث الكاتب بلهفة عن شعوب ملهوفة لرؤية الحرية تتحقق في ربوعها لأنها باتت مقتنعة ان الممانعة والمقاومة لا يمكن ان تصمدا او تصلا لتحرير فلسطين في ظل أنظمة استبدادية، فصادر دماء الشهداء بحجة المؤامرة، وكانت لهفته في غير محلّها.