طفولة يهودية في القسطنطينية: المفاتيح المعثور عليها لبنجامين ستورا
نُشر مؤخرًا عن دار النشر “ستوك” الفرنسية كتاب “المفاتيح المعثور عليها: طفولة يهودية في قسنطينة” لبنجامين ستورا (« Les clés retrouvées : une enfance juive à Constantine ») وولد بنجامين ستورا في 2 ديسمبر 1950 بمدينة قسنطينة في قلب الحي اليهودي للمدينة “كر شرح” حيث يسكن فيه عرب ويهود، وتعد مدينة قسنطينة حسب ما ذكرته العديد من كتب التاريخ أغنى مدينة في القارة الإفريقية وتم تدميرها خلال تمرد قام به “ماكسانس” عام 311 وأعاد إحياؤها الإمبراطور “كونستوتان” وهو الذي أعطاها اسم “قسنطينة”. أما في عهد العثمانيين، قام صالح باي بتحويلها إلى عاصمة إدارية وقام بتشييد مدرسة ومسجد وقصر في ساحة “سوق العصر”، وكان صالح باي هو من أقام اليهود في هذه المدينة ليلم شملهم. ويقول ستورا: “ليست لدي ذكريات عن سير عائلية تروي ردة فعل يهود مدينة قسنطينة غداة الاحتلال الفرنسي، هل استقبلوا الفرنسيين كفاتحين كما كان عليه في الجزائر العاصمة؟ أم أنهم بالعكس قاموا إلى جانب الأهالي بمقاومتهم ومحاربتهم؟ ولو أن بعض المؤرخين يميلون إلى النظرية الثانية أي مقاومة اليهود إلى جانب الأهالي إلا أن الكثير منهم يلتزم الصمت بشأن ذلك فمدينة قسنطينة سقطت بين أيدي الفرنسيين عام 1837”. ويستطرد ستورا قائلاً: “لم أكن أعرف بعد الكاتب الجزائري الكبير “كاتب ياسين” ولم أكن لأكتشف بعد لوحات الفنان “جون ميشال أتلان” ولا عن مصير الموسيقيين الكبار في المالوف (وهي موسيقى عربية أندلسية) كـ:ريموند ليريس” (أو الشيخ ريموند) و”طاهر فرقاني” و”ألكسندر نقاش” وسيلفان غريناسية”. وغالبًا ما كان يُعتقد أن أطفال أوروبيي الجزائر هم أبناء الكولون أو المعمرين وهذا ليس صحيحًا. كما أن مدينة قسنطينة لم تكن بالمدينة الحزينة إذ كنا نستمتع بالموسيقى بالقدر الكافي، كنا نسمع “داليدا” و”غلوريا لاسو” و”داريو مورينو” و”ليتل ريتشارد” و”إيلفيس بريسلي” فالموسيقى كانت تسحرنا سواء كانت الموسيقى الغربية أو موسيقى المالوف”. وكانت عائلة ستورا رحلت عن أرض الجزائر في 16 جوان 1962 نحو فرنسا وكانت ضربة طاعنة لهم وكان حينها ستورا يبلغ من العمر 12 سنة.
ومن خلال سيرة ذاتية عن طفولته في الجزائر ولاسيما في قسنطينة، مدينة الجسور المعلقة، يقوم بنجامين ستورا باسترجاع أشرطة ذكرياته فتذهب به لقطات عن طفولته حيث جل الذكريات تتبعثر من هنا وهناك: أبطال عن الصور المتحركة وأجساد فتيات جميلات مصطفات شبه عاريات على شواطئ مدينة “فيليب فيل” (سكيكدة حاليًا) وحوانيت حيث تُباع قطع الحلوى وقاعات لدور السينما وأفلام الويستيرن الأمريكية والفسحات العديدة التي كان يقوم بها بعد وجبات العشاء في الساحة الكبيرة للمدينة وتناول الآيس كريم “كريبوني”. صور عن والدته وهي تقوم بطهي الكسكس وتحضير حلوى “الطمينة” و”القنيدلات” وتراقب تحضير صحن “الرشتة” وتقدم “التفينة” التي تقوم بتحضيرها لمدة يوم كامل قبل طهيها لليوم التالي أي تحضيرها ليوم السبت أو يوم “شباط”. صور أخرى عن والده في حانوت حيث كان يعيل عائلته، وصور عن مرحلته الدراسية في حي “ديدروه” ويقول بنجامين ستورا: “كانت المدرسة في بلد تَوَجَبَ أن يُكتب مستقبله بالفرنسية مسارًا محتومًا، لكنني كنت أواظب في الذهاب إلى المدرسة اليهودية “أليانس” كل يوم خميس وأحد لتعلم العبرية وحفظ النصوص الدينية من التلمود والتوراة حتى أبقي على جذوري اليهودية”،أأـأ ويضيف: “حاولت استرجاع أسماء زملائي في الدراسة، حاولت إعادة تصويرهم في مخيلتي لكن دون جدوى لقد تبعثر كل واحد منا في أرجاء المعمورة نتيجة الترحيل والتهجير”.
ويقوم المؤرخ من أصول جزائرية باستعادة لقطات من حرب الجزائر عندما كان في سن الرابعة من العمر يوم 20 أوت 1955 في إحدى العمارات بقسنطينة غير بعيد من وادي الرمال عندما داهمهم جنود واقتحموا المنزل العائلي ليصطفوا أمام إحدى النافذات ويقوموا بإطلاق الرصاص على جزائريين كانوا يهربون نحو وادي الرمال.
وثائق وأرشيفات وصور تعود لوالده وجده تخص الحرب العالمية الثانية 1939-1940 وحادثة إلغاء مرسوم “كريميو” عام 1940 والذي من خلاله يمنح اليهود الجنسية الفرنسية والذي تم تطبيقه من قبل السلطات الفرنسية منذ عام 1870.
ويقوم ستورا برزم أشرطته وبعثرتها لتعود به إلى تاريخ يهودي-بربري من خلال سفره إلى بجاية قام به خلال عام 2014 حيث قُدمت على خشبة المسرح عرض كتابه: “الهجرات الثلاث ليهود الجزائر” (« Les trois exils, Juifs d’Algérie ») والتي تروي فاجعة عائلة يهودية إبان الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ويقول بنجامين ستورا إنه بعدما قام المسرح بإسدال ستاره في نهاية المقطع الأخير للمسرحية المعروضة “افترقنا على حقيقة أن الجزائر ليست وليدة جنس واحد ولا وطن لجنس واحد أو لغة واحدة أو دين واحد”.
ويقول بنجامين ستورا إن وجود اليهود في شمال إفريقيا يعود إلى قبل تواجد العرب والفرنسيين فهم من بين السكان الأوائل بعد الأمازيغ. وفي عهد الخلافة الإسلامية كان اليهود يقدمون جزية وبعد صدور مرسوم “كريميو” عام 1870 تمكن لهم الحصول على الجنسية الفرنسية وبالتالي أصبحوا فرنسيين. ويعد يهود قسنطينة أهم جالية في إفريقيا الشمالية هذا عدا يهود تلمسان وفاس وتونس، وكانوا مختلطين بالمسلمين. ولو أن البعض كان يصف الأسر المسلمة كونها أسر تعيش في مجتمعات مغلقة إلا أن ذلك حسب “ستورا” غير صحيح فخلال الأعياد الدينية كالمولد النبوي الشريف أو العيد الكبير (عيد الأضحى) كانت الموسيقى والصلوات تعم الأحياء، كما كان المسلمون على دراية بالطقوس الدينية اليهودية فالتجار المسلمون كانوا يعدون أيامًا قبل أعياد السنة اليهودية (روش هاشانا) أو لعيد يوم كيبور باقات كبيرة من السلق أو السبانخ لتحضير العيد أو أكوامًا من الفول الأخضر تعوض النشويات المحرمة خلال عيد الفصح اليهودي، كما أن المسلمين كانوا يشترون اللحم عند القصابة اليهودية فهم كانوا يدركون أن اللحم هناك كان حلالاً. ومع ذلك فيهود قسنطينة عاشوا على الطريقة الفرنسية وابتعدوا من الأهالي حتى وإن كانوا يعيشون مثلهم إذ غالبًا ما كانوا يرتدون خلال الأعياد الدينية الأزياء التقليدية من “الجلبات” و”القفطان” ويأكلون جالسين على الأرض، فاليهود كالمسلمين اقتسموا المحن معًا ولكن ثقل الأحكام المسبقة والأخلاق والاعتقاد والخوف من الاختلافات أقام حاجزًا بين الطائفتين المسلمة واليهودية وحتى في المدارس حيث كان عدد التلاميذ المسلمين لا يتجاوز الستة مقابل 20 من التلاميذ اليهود وهذا يعبر عن غياب المساواة القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية إبان الاستعمار الفرنسي.