اشكالية الدولة المدنية والعشيرة عند العرب
لينا جزراوي*
يبدوأننا نعاني، نحن العرب، من اشكالية ما بين مفهومي الدولة المدنية والعشيرة في العالم العربي، فتعثر مشروع الدولة المدنية الملاحظ في منطقتنا بشكل عام، وخروج الانتماءات الفرعية على السطح وتوجه الأفراد وحتى النخب بكل ثقلها السياسي والثقافي والطبقي باتجاه جماعة مرجعية تؤمن الحماية وتحمي الحقوق، في ظل غياب واضح لدور الدولة في حماية حقوق مواطنيها.. لم تعد خافية على أحد.
لقد كانت هذه الاشكالية جلية واضحة في جلسات مجلس النواب الأردني، التي عقدت لمناقشة التعديلات الدستورية، وتحديدا الجلسة التي ناقش فيها السادة النواب المادة الخاصة بتشكيل المحكمة الدستورية، وشروط انضمام أعضائها والجهات التي يحق لها الطعن في دستورية القوانين. كان واضحا بما لا يدع مجالا للشك بأن هناك التباساً واضحاً بين مفهوم الدولة- المدينة ومفهوم الدولة- القبيلة. ففي مقترح توسيع مظلة الجهات التي يحق لها الطعن في دستورية القوانين، لتشمل الاحزاب السياسية والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني، بالاضافة الى شمولها المواطن العادي كجهة يحق لها الطعن، كأي محكمة دستورية في العالم، أسقط المقترح سقوطا مروعا.
الملفت في هذه الجلسة كان مداخلات بعض النواب التي أكدت على وجود خلط وارتباك، بين مفهوم الدولة المدنية ومفهوم العشيرة، فالبعض رفض منح الأحزاب السياسية هذه الفرصة، بحجة أننا مقدمون على مجلس نيابي حزبي ستأخذ فيه الأحزاب فرصة للتمثيل، والبعض رفض منح المواطن العادي الحق في الطعن بحجة أنه سيحصل ارباك وفوضى في المحاكم التي لن تتمكن من البت بالقضايا المرفوعة (وهذا اعتراف ضمني وتخوف من الكم الهائل من القوانين غير الدستورية، التي سيطعن بها أمام المحاكم).
والأخطر، كان مطالبة بعض السادة النواب بأن تضاف العشائر كجهة يحق لها الطعن في المحاكم الدستورية، وهذا يعني التعامل مع العشيرة كنسق سياسي.
فكيف تدعي الحكومة والبرلمان باصلاح سياسي حقيقي، هومطلب شعبي بالأساس، ويقومان بحرمان الأحزاب السياسية والنقابات والمواطن، من حق الطعن في المحكمة الدستورية، أسوة بباقي دول العالم المتحضر؟
ان من أهم الاثباتات على جدية الدول في الاصلاح والسير باتجاه مدنية حديثة، هو انشاء المحاكم الدستورية، لكن تكميم وحصر الجهات المستفيدة من هذه المحكمة بالأعيان والنواب ومجلس الوزراء، يتناقض مع جوهر تشكيل هذه المحكمة، وهو حماية حقوق المواطن، وضمان دستورية القوانين.
الأهم من قصة المحكمة الدستورية كان نتائج التصويت على هذا المقترح، الذي أثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن أكثر من نصف أعضاء المجلس لا يؤمنون بالعمل الحزبي، وهذا مؤشر على أن مفهوم الدولة يشوبه الكثير من اللبس والتشويه. فالدولة عندنا تبدو مجرد صلة وصل سلطوية بين مجتمع محلي محدد باطار بلدة أو عشيرة أو طائفة، وبين الاطار الأشمل للأمة الذي يتجاوز مفهوم الدولة. فنعرف بأن العرب قد عرفوا الدولة بمفهومها لدى ميكافيلي وهوبز، أي دولة الأمن، وتسليم السلطة المطلقة لصاحب سيادة في الدولة، فالمجتمع المدني عند هوبز هو المجتمع القائم على التعاقد حتى لو اتخذ شكل الحكم المطلق، أما الدولة عند جون لوك، فهي لا تتفق مع فكرة العبودية والخضوع، وجعل المجتمع مصدر شرعية الدولة، وله الصلاحية في مراقبتها وعزلها.
لقد دعا الإسلام الى نبذ العصبية القبلية من منطلق، “كلكم لآدم وآدم من تراب”، و”لا فضل لعربي على عجمي الا بالتقوى”، الا أن قوة الانتماء القبلي في مجتمعاتنا العربية ما زالت تزاحم التوجه نحو تأسيس مرحلة “الدولة– المدينة”، ليحل محلها ظاهرة “الدولة- القبيلة”.
في مجتمعاتنا العربية، هناك فجوة عميقة ما بين مفهوم الدولة (التي تعزز سياسات أنظمتها الانتماءات الفئوية)، والمجتمع المدني، حيث تتخذ الأنظمة طابعا سياسيا يضع مفهوم المجتمع المدني في تضاد مع الدولة. ان عملية تصوير مدنية المجتمع كمقابل للدولة، تحمل مخاطر عديدة، وتعيق التحولات نحو الديموقراطية في العالم العربي برمته.
ان أهم شرط من شروط قيام الدولة المدنية الحديثة هو سياسة دولة مستقرة وثابتة، وأن لا يكون تعريف الدولة ووظيفتها منحصرين بالسلطات والأنظمة الحاكمة فقط، وهذا لا يمكن أن يتبلور بدون عمل حزبي وبرلمان حزبي وحكومات برلمانية. فالمجتمع المدني هو المجتمع المنظم تنظيما سياسيا، وهو يعبر عن كل واحد يضم المجتمع والدولة معا، والعلاقات داخل المجتمع المدني هي علاقات بين أحرار متساوين، لا يعرف السيطرة ولا التبعية.
وما يحدث الآن هو توظيف مفهوم المجتمع المدني توظيفا سياسيا في وجه التيارات الحاملة للقيم التقليدية، وتصوير المجتمع المدني مقابل المجتمع الأهلي واستخدامه لمحاربة بنى المجتمع القديمة، وهذه هي الصعوبات التي تواجه بناء المجتمع المدني، وتخيف المجتمع من التحول نحوالمدنية.
لا يمكن تجاهل العشيرة كنسق اجتماعي وسياسي رئيسي نحترمه، لكننا الآن أحوج ما نكون لنشكل معا دولتنا المدنية الحديثة، دولة لكل مواطنيها، والتي لا يمكن أن تتضح معالمها مع وجود مجموعة من الدويلات داخل الدولة، فالاصلاح الحقيقي يتحقق بمجتمع مدني حديث تذوب العصبيات القبلية وأشكالها الطائفية والمذهبية ويدمج المواطنون جميعا في كيان حديث، اسمه الدولة المدنية.
هذه فرصتنا ويجب أن لا تضيع.
* ناشطة حقوقية من الاردن