من حلف بغداد إلى الاتفاق النووي
منذ مدة وشغل العالم الشاغل الاتفاق الأمريكي الإيراني. وعندما خرج الدخان الأبيض من مدخنة فيينا ذهبت التحاليل كل مذهب فبعضها للمتع الفكرية وبعضها مُسيّس ومسخر لخدمة وجهات نظر إيجابية مؤيدة أو سلبية متشائمة خائفة من نتائجه. ولكنها في معظمها ستبقى منقوصة طالما أن الملفات أو ما سماه وزير الخارجية الفرنسي بـ “الملاحق” غير معلنة وغير معروفة إلا لأصحاب الشأن أنفسهم.
والمتتبع للأحداث في المنطقة يلاحظ أن هذا الاتفاق يأتي بعد ستين سنة من إعلان حلف بغداد عام 1955 الذي قادته في أيامها بريطانيا العظمى وكانت أمريكا وراءه وتريده من أجل تحقيق مصالحها في المنطقة خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي وكغطاء لاستعمار جديد بكل أبعاده. ولقد فشل ذلك الحلف يومها بفضل وعي الجماهير العربية ومعارضتها له حيث انتفضت شوارع العروبة في كل من العراق وسوريا والأردن ولبنان وشكلت مصر التي كان على رأسها الزعيم جمال عبد الناصر رأس حربة في إسقاطه.
نسي العرب حلف بغداد ولكن أمريكا لم تنس وأخذت تعمل بمنهجية أخرى وسجلت في المرمى نقطة عندما أخرجت مصر من المعادلة العربية عبر اتفاقية كامب ديفيد التي قيدتها بكم من الشروط المعلنة والغير معلنة فأصبحت حرية قراراتها رهنا بالمصالح الأمريكية والإسرائيلية. ومن ثم سمحت لحكام طهران بالقفز على ثورة الشعب الإيراني وأصبح لهم مشروعهم الخاص الذي لم يتوافق مع المشروع الأمريكي فتبع ذلك تشنجات محدودة بين الطرفين وأضيف للأمريكان حينها لقب دخل قواميس السياسة وهو “الشيطان الأكبر”. ولكن مع مرور الوقت تبين أن كل ذلك كان من أجل تحسين وضعهم وشروطهم والتي وصلت في نهاية المطاف أي ساعة التوقيع إلى مرحلة التوافق وتبادل المصالح مع الغرب بصفة عامة.
واليوم وبعد ستة عقود نجح أوباما فيما فشل به إيزنهاور وتحقق الحلف المشؤوم ولكن هذه المرة بديكور جديد تقوده إيران بالتوافق الغير المعلن مع إسرائيل وستلحق به الباكستان وتحوز على نصيب من هذه الكعكة بفضل مساهمة علمائها في تحسين الشروط الإيرانية من خلال معوناتهم التقنية في المشروع الإيراني النووي. وأما تركيا أردوغان فإنها سوف تراوغ في البداية وتمرر الوقت ولكن عاجلا أم آجلا سوف تلتحق بالركب لأسباب اقتصادية واستراتيجية في الدرجة الأولى وخصوصا إذا بقي الباب الأوروبي موصدا في وجهها في الوقت الذي تتابع إيران تمددها مستخدمة عنصري الدين والمال في مناطق آسية الوسطى الناطقة باللغة التركية والتي تعتبر مناطق نفوذ اقتصادي وسياسي تركية.
وأما سوريا فقد رهنها حاكمها لإيران وأصبح الإيرانيون يتحكمون في كل مفاصلها وقراراتها سياسة واقتصادا. ويبقى مصر عبد الناصر وثورة 23 يوليو التي طالما رفضت سابقا كل محاولات الغرب في إقامة أحلاف عسكرية في المنطقة لأنها كانت ترى في ذلك خطرا كبيرا على سيادتها وعلى الأمة العربية ودفعت ثمنا باهظا من أجل حرية القرار والخيارات… فإنها اليوم وبفضل كامب ديفيد دخلت في معادلات تتناقض مع ذلك كليا وتعيش مرحلة تغيب فيها الحريات والمؤسسات الدستورية وبمقدور رئيسها إذا أريد له أن يعلن الانضمام ببيان من عدة أسطر وسط تطبيل إعلامي يبرر كل خطيئة ويزينها.
لقد كتب لأمريكا النجاح بعدما دمرت عسكريا أحد أركان سياج الأمن العربي ألا وهو العراق ثم سلمته على طبق من ذهب لإيران التي فتتت مجتمعه بعدما أدخلته في آتون المذهبية وسيطرت على مقدراته وقراراته فأصبح شوكة في خاصرة العرب بعدما كان خط دفاعهم..! مما سهل عليها مهمة التغلغل في بعض المجتمعات العربية من خلال شعارات دينية ومذهبية فاستوعبت وللأسف أعدادا لا يستهان بها من المثقفين والإعلاميين بعضهم حاقد على الأنظمة التي تحكم المنطقة وبعضهم نفعيّ يلهث وراء أضواء الإعلام وبريق والمال.
وبشكل مبسط فإن أمريكا والغرب كانوا يبحثون من خلال هذا الاتفاق عن أمور أخرى غير تلك التي تؤمنها لها دول الخليج البترولية من استثمارات لجزء كبير من عائدات نفطها في بلادهم فقد كانوا يبحثون قبل كل شيء عن شرطي قوي في المنطقة وعن دخول لإسرائيل في منظومة المنطقة اقتصاديا وسياسيا وهو ما لم تستطع معاهدة السلام مع مصر والأردن تحقيقه ولا الغزل القائم بين بعض الدول العربية وإسرائيل.
فيأتي هذا الاتفاق في اعتقادي كجواب عن سؤال : من غير إيران التي انتصر حلفاؤها على إسرائيل بفضل معونتها بمقدوره فعل ذلك خصوصا وسط هذا التفتت والشحن المذهبي…؟
لقد غدت إيران بعد هذا الاتفاق أقوى من الأمس ولا يمكن مواجهتها بحرطقات سياسية هنا وهناك ولا بحروب صغيرة لا طائل منها. بل لا بد من هزيمة تلحق بها في سوريا لكي تستعيد وعيها وتعود بالتالي إلى حجمها وهو ما لا يريده لها الأمريكان على الأقل في هذه المرحلة التي يدعون فيها مواجهتهم لعدو مشترك قد تمت فبركته وتفصيله في دوائر القرار على المقاس ليخدم مصالحهم المشتركة ألا وهو التطرف السني…! وإن نجاح الثورة السورية سوف يغير معادلات المنطقة ويقلب الطاولة ويعيد عقارب الساعة إلى نقطة الصفر إيرانيا وإسرائيليا.
وفيما يخص استفادة العرب من هذا الاتفاق فستكون باكتشافهم لخيبتهم وخيانتهم لحكمة هم واضعوها : أكلت يوم أكل الثور الأبيض…! وكذلك اختفاء المصطلحات والشعارات السياسية التي أتت مع ثورة الخميني: دول الاستكبار… والشيطان الأكبر… أما شعار المستضعفين في الأرض فلقد دفنته إيران بيديها عندما مارس خبراؤها وميليشياتها المذهبية التقتيل على الأرض السورية ضد شعب مستضعف يطالب بالحرية وسوف يكتشف العرب من خلال مضامين هذا الاتفاق أن العالم الغربي المتغطرس لم ينس ماضيه الاستعماري يوما وأنه ما زال يعيش عقده إلى أيامنا هذه وأن صديقه الوحيد مصالحه ثم مصالحه…
كلام صحيح استاذ خالد
تاريخ نشر التعليق: 2015/08/01اُكتب تعليقك (Your comment):