مسيحيو مصر قلقون على حقوقهم
شكَّل فوز تيار الإسلام السياسي بغالبية مقاعد مجلس الشعب المصري قلقاً مزمناً لملايين المسيحيين، نظراً إلى ما يعتزم ممثلو هذا التيار سنِّه من قوانين، من شأنها تقييد الحريات العامة والتضييق على المسيحيين إجتماعياً وسياسياً وربما دينياً. ولم يأت قلق المسيحيين من فراغ أو من دون سبب، فقد كشف رموز التيار الإسلامي «السلفي» عن جزء مما يعدونه للمستقبل، من خلال أحاديثهم في اجتماعاتهم المغلقة، كان أخطره قول القيادي السلفي ياسر برهامي إن «اليهود والنصارى كُفَّار»، وإنه لن يغيّر آراءه “من أجل السياسة والمصلحة”. وقال رئيس الاتحاد المصري لحقوق الإنسان نجيب جبرائيل، إن “عدداً كبيراً من قادة التيار الإسلامي بشكل عام والتيار السلفي على وجه الخصوص، أعلنوا أنهم لن يوافقوا على بناء كنائس جديدة وترميم القديم منها، كما أنهم يعتزمون فرض الجزية على المسيحيين مقابل إعفائهم من أداء الخدمة العسكرية، وهو ما يعني العودة قروناً إلى الوراء”. وأضاف جبرائيل: “السلفيون شكَّلوا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي تتحدث عن فرض الحجاب على النساء المسيحيات وإرغامهن ليس فقط على نمط حياة لم يعتدنه، بل ويتصادم أيضاً مع قناعاتهن”. كما تحدث عدد من المسيحيين في منطقة الضاهر بوسط القاهرة، عن أن متشدّدين إسلاميين طلبوا من راعي كنيسة مارونية عدم عزف الموسيقى داخل الكنيسة، وطلبوا من رعاة كنائس أخرى عدم دق الأجراس. ولكن على ما يبدو فإن المسيحيين المصريين ليسوا كلهم سواء في الخشية من صعود التيار الإسلامي ووصول رموزه إلى سدة الحُكم، فقادة الكنيسة الأرثوذكسية وجَّهوا الدعوة لقادة جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة، الذراع السياسي للجماعة، لحضور قداس عيد الميلاد. ويسير قادة الكنيسة الأرثوذكسية، ومعهم قادة باقي الطوائف المسيحية الأخرى، على هَدي قول بولس الرسول في الكتاب المقدس إن «السلاطين الكائنة هي بترتيب من الله؛ ومن يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله»، وهو ما ترجمه عملياً راعي كنيسة القديسين في الأسكندرية، القس مقّار فوزي، الذي أكد أنه أعطى صوته في الإنتخابات النيابية لمرشحي حزب الحرية والعدالة. ونقلت صحيفة «المصريون» الأسبوعية عن فوزي، الذي تعرَّضت كنيسته للتفجير ليلة رأس السنة العام 2010، قوله إن “تأييده لمرشحي الإخوان يأتي لأنهم عقلاء ومعتدلين عكس التيارات الأخرى المتشدّدة التي لا تؤمن بالعملية السياسية وحقوق الأقليات في المواطنة”. ولم يكن راعي كنيسة القديسين وحده الذي لم يجد في حصول الإسلاميين على غالبية مقاعد البرلمان المصري سبباً في مناصبتهم العداء واستباق المواقف، بل إن البابا شنودة الثالث بحث، قبل يوم واحد من قدّاس عيد الميلاد، مع رئيس الطائفة الإنجيلية في مصر القس صفوت البياضي، كيفية مد جسور الحوار البنَّاء مع التيارات الدينية الأسلامية بعد نجاحها الواسع في الانتخابات. كما طالب الأنبا بسنتي، أسقف حلوان والمعصرة، خلال عظة سبقت إحتفالات عيد الميلاد ، مَن سمّاهم «مفتعلي الأزمات» بالكف عن تخويف الأقباط “الذين يجب ألا يشعروا بالخوف من صعود الإسلاميين”. في المقابل، ينكر بعض السلفيين العداء للمسيحيين، فقد أكد القيادي في حزب “الأصالة” السلفي ممدوح إسماعيل أن “الحديث عن أن التيار الإسلامي يُضمر شروراً للمسيحيين المصريين ليس سوى فزّاعة يروجها أعداء التيار الإسلامي لخلق حالة عدائية له بين الشعب المصري الذي قال كلمته واختار مرشحي التيارات الإسلامية لتمثيله في البرلمان”. ودعا إسماعيل إلى عدم إستباق الأحداث وعدم الحُكم بتعجّل على التيار الإسلامي “الذي سيُثبت أنه سيعمل لصالح المصريين جميعاً من دون النظر الى إنتماءاتهم الدينية أوالطائفية”. ولكن التطمينات المتبادلة بين الإسلاميين والقيادات الكنسية، التي يمكن إعتبارها نوعاً من «الغزل السياسي» لا تجد ما يدعمها على أرض الواقع، فقد إضطر علماء دين مسلمون مؤخراً أن يؤكدوا لجماهير عريضة من المسلمين أن «تهنئة المسيحيين بأعيادهم حلال شرعاً»، وهو ما لم يكن يحدث من قبل، فالتهنئة المتبادلة لم تكن تحتاج إلى فتوى تفسّر الماء بالماء، إذ استقرت كعرف مجتمعي يحرص عليه الجميع منذ مئات السنين. وفي المقابل، اضطر قساوسة أن يهدئوا من روع آلاف المسيحيين تجمعوا عدة مرات أمام مبنى التليفزيون للتنديد بإحراق وهدم كنائس في محافظتي الجيزة وأسوان، وأن يؤكدوا لهم أن الغرب الذي يرى بعضهم الإستنجاد به، هو “إستعماري نهب ثروات مصر في الماضي وقتل المسيحيين قبل المسلمين”. وتبدو الحوادث ذات الصبغة الطائفية التي تقع بين وقت وآخر كمثل نار تحت الرماد مرشحة للإشتعال طالما بقت جذوتها، واتخذ عدد كبير من المسيحيين بناءً على ذلك قرارات بمغادرة البلاد التي قد تتفاقم معاناتهم فيها بعد أن بات المناخ السائد فيها إقصائياً بحق المسيحيين الذين يشكِّلون نحو 18% من الشعب المصري البالغ نحو 80 مليون مواطن. وقدَّر نجيب جبرائيل عدد المسيحيين الذين هاجروا من مصر خلال عام 2011 بنحو 100 ألف مواطن، مشيراً إلى أن لديه معلومات موثَّقة عن هجرة الأطباء إلى الولايات المتحدة الأميركية والصيادلة إلى أستراليا، فيما فضَّل رجال الأعمال الإستقرار في أوروبا. من جهته، قال الناشط والصحافي صموئيل العشَّاي، إن المسيحيين قبل خلع الرئيس السابق حسني مبارك لم يكونوا بحال أفضل من الآن، فقد مثَّل عهده سجناً كبيراً لهم، “فلم يتقلد النابهون منهم مناصب قيادية في الدولة والتي هي حق من حقوقهم كجماعة تعيش في مصر لها نفس الحقوق وعليها ذات الواجبات التي على المسلمين”. واعتبر العشّاي أن الحديث المتواصل عن تهميش الأقباط وفرض وصاية الجماعات المتأسلمة عليهم، يهدف إلى حرف الأنظار عن كارثة تحدث حالياً في الأراضي الفلسطينية المحتلة بزيادة حجم المستوطنات الإسرائيلية في القدس التي تهم الجميع، مسلمين ومسيحيين بل ويهود لا يرضيهم التطرف الإسرائيلي. وغمز العشاي من قناة السلطة الحاكمة حالياً، متسائلاً من أغمض أعينه عن تسلم جماعة الإخوان المسلمين مبلغ 535 مليون دولار من قطر في 13 شباط/ فبراير 2011، بعد يومين فقط من خلع مبارك. ومهما يكن من أمر، وكيفما حاول الساسة والنشطاء على الساحة المصرية توصيف واقع العلاقة بين تيارات الإسلام السياسي والمسيحيين، فإن الحقيقة المؤكدة هي أن حصول ممثلي تيارات الإسلام السياسي على أكثر من 60% من مقاعد مجلس الشعب يمثِّل حدثاً كاشفاً لواقع راهن وليس حدثاً مُنشأ لواقع جديد. وتمتد خشية المسيحيين من تنامي تيارات الإسلام السياسي إلى سبعينات القرن الماضي حينما أتاح النظام المصري آنذاك لتلك التيارات الفرصة للتمدّد بطول مصر وعرضها، وهو ما أدى إلى ظهور جيل جديد من الشباب المسيحي تمرد على تعاليم الكنيسة بعدم الثورة على الحاكم وتمرد بشكل أكبر على وضعية المسيحي كمواطن حرمه النظام من تولي وظائف قيادية خشية غضب قادة الإسلام السياسي الذين سيطروا بالفعل على الشارع.