- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

سياسة ساركوزي والكارثة الوطنية الفرنسية

باريس ــ بسّام الطيارة
خفض التصنيف الائتماني لفرنسا من قبل ستاندرد أند بورز كان متوقعاً منذ أكثر من شهرين وهو ما دفع المسؤولين الفرنسيين إلى التصريح على مدار القمم الأوروبية والثنائية لإيجاد حلول للوضع الاقتصادي الأوروبي بأن «أي تخفيض لا يعني نهاية العالم». ويشيرون إلى «أميركا التي رغم جبروت اقتصادها تم خفض علامتها الائتمانية».
إلا أن الخبراء انكبوا يحللون الوضع الاقتصادي لفرنسا، والذي لم تشهد مثيلاً له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥، رغم أن ميزانيات الدولة الفرنسية أظهرت عجزاً منذ عام ١٩٧٤. لا يمكن بالطبع تجاوز مسؤولية حكومات نيكولا ساركوزي التي تعاقبت منذ خمس سنوات وأقرت ٦٠٠ إجراء إصلاحي منذ وصوله إلى الإليزيه.
آخر تقرير لديوان المحاسبة يشدد على أن ٢٠ في المئة من العجز الحالي، أي ١٤ مليار يورو، هي مرتبطة مباشرة يسياسات حكومات ساركوزي، يضاف إلى ذلك «التردد» في اتخاذ القرارات اللازمة في أوقاتها المناسبة أو اتخاذ قرارات «وسطية» بغرض عدم إغضاب الدوائر المالية والمستثمرين وإرضاء الأسواق. والتفسير لذلك هو أن ساركوزي يجد نفسه بين رئيس وزراء «ديغولي متقشف» وهو فرانسوا فييون، وبين مستشار ديغولي أيضاً، ولكنه «مبذر اجتماعياً» وهو هنري غيينو. فالأول على طريقة ديغول أراد دائماً دعوة الفرنسيين لشد الحزام والاقتصاد وعدم التبذير ومصارحتهم بالصعوبات التي تعترض الاقتصاد الوطني كما كان يفعل ديغول. بينما الثاني يريد الصرف على مشاريع كبرى «كنزية» لدفع الاستهلاك والنمو… تماماً كما فعل ديغول في السنوات الذهبية في الستينيات مع موجة المشاريع الكبرى. إلا أن فرنسا اليوم لم تعد فرنسا أمس من جهة، أضف إلى أن ساركوزي بدا فور وصوله مرتبطاً بتعهدات للطبقات الثرية أكدها عبر أولى قرارته ومنها خفض الضرائب على الثروات والطبقات الميسورة… أي عكس ما كان يفعل ديغول. وفي الإصلاحات أختار طريقاً وسطياً بين فييون وغيينو، بحيث فقد فوائد التوجهين.
عندما جاءت أزمة (subprime) عام ٢٠٠٨ اختار ساركوزي طريق «الاقتراض» للخروج منها، فأعلن خطة تنمية مستندة على قرض بقيمة ٢٦ مليار يورو، ذهب ١١ ملياراً منها لدعم الشركات والمصارف و١١ ملياراً لمشاريع كبرى لم تساعد في حل أي مقدار من البطالة المتفشية وبالتالي لم تدعم الاستهلاك ما سبب تراجعاً في النمو.
عند الموجة الثانية من الأزمة، أي في عام ٢٠٠٩ ، كان العجز في الميزانية الفرنسية بحدود الـ ٨ في المئة، وبدأت تظهر نتائج الأخطاء في خطة التنمية السابقة، وبلغ العجز ٣٠ ملياراً. هنا انطلق ساركوزي في اصلاحات تطال الجوانب الاجتماعية، يتفق الجميع على ضرورتها، إلا أنها سببت خضات اجتماعية وعطلت الأعمال لمدة طويلة وسببت تراجعاً في نسبة النمو ومدخول ضريبة الاستهلاك، أضف إلى أن الإصلاحات التي مررها بالقوة كانت مبنية على نسبة نمو متفائلة أثبتت الأيام عدم إمكانية تحقيقها. وظل سد العجز يعتمد على «الاقتراض» وسط تراجع متانة الهيكلية الاقتصادية الفرنسية.
وبالطبع كانت وكالات التقييم تتابع بدقة الخطط الفرنسية التي كانت تخرج تباعاً من دون أي تأثير حقيقي، لأنها في السنة الأخيرة كانت خططاً ذات توجه «سياسي انتخابي» لا تصل إلى مراميها الاقتصادية، وأفضل مثال خفض عدد الموظفين، ففي سنوات حكم ساركوزي تراجع عدد الموظفين ١٥٠ ألفاً، إلا أن هذا لم ينعكس على سبيل الماثل سداً للعجز إلا بما يعادل ملياري يورو من دون الأخذ بعين الاعتبار تراجع القدرة الشرائية لهذه الشريحة وبالتالي تراجع استهلاكها وتدني مدخول ضريبة الاستهلاك. وينطبق هذا أيضاً على تسريح العديد من العمال في الشركات التي أرادت الإفلات من الأزمة، من هنا تراجعت تقديرات النمو من ١،٨ في المئة إلى نصف في المئة، وهو ما سلط أضواء وكالات التقييم على وضع الاقتصاد الفرنسي وبدأت التحذيرات تتصاعد من أن «دور فرنسا قادم».
في هذه الأثناء كان ساركوزي ينتقل بين باريس وبرلين ويعقد القمم الأوروبية ويبدو وكأنه يحاول «إنقاذ أوروبا» وكأن اقتصاده غير مهدد. وقد استطاع بتحركه وبتأجيج الجدل النظري مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن يحيد الانتباه عن الوضع الفرنسي، ويجذب أنظار مواطنيه إلى «مجهوده لإنقاذ اليورو»، بينما كان فييون يمرر إصلاحاً تلو الآخر في محاولة لإبعاد مرّ التخفيض عن فرنسا. ربح ساركوزي «هالة دولية» بسبب نشاطه على الساحة الأوروبية واعتبر أنه سوف يستغلها في زيادة رصيد شعبيته المتدنية، وجاء خفض التصنيف ليهدم هذه الآمال ويعيد ساركوزي إلى واقع شعبيته. من الممكن أن تنخفض علامة تقييم فرنسا مرة أخرى ولكن من الصعب أن تنخفض شعبية ساركوزي أكثر مما هي متراجعة.